الحبّ لعبة خطرة

22 مارس 2023
+ الخط -

يحتاج العشاق إلى تعريض عشقهم للخطر بين الفينة والأخرى، فيما يشبه صعقات الإنعاش. كثيرون يفعلونها بوعي أو بدونه، كنوع من تدبير الرغبة. ذلك أنّ من طبيعة الرغبة أن تنتفي مباشرة بعد تحقّقها، ولا تنتعش إلّا تحت التهديد. تلك هي القاعدة التي لا يعترف بها الشعراء، لكن الفلاسفة يعرفونها حق المعرفة.

في قرية صغيرة شمال المغرب، كانت "سلمى"، أستاذة في مقتبل العمر، تعمل مع زوجها في المؤسسة نفسها، كانت مثالاً للزوجة الخانعة الطيّعة، لا تتحرّك إلا رفقة زوجها وحين يشاء وكما يشاء. أوكلت له أمرها في كلّ شيء، حركاتها، سكناتها، وحتى حسابها المصرفي، لم تعد تعرف عنه أيّ شيء. كانت تستمتع بذلك الخنوع مثل طفلة رضيعة. كان الحب يبدو آمنا من كلّ المخاطر، إلا أن ذلك الأمان كان هو الخطر الداهم عينه! وهو ما لم تدركه سلمى إلا بعد فوات الأوان. ملّكته نفسها كلها، لكنها قتلت فيه الرغبة في المقابل. وبعد أن ملّ منها، ثم ملّ من المغامرات المتقلّبة مع غيرها، رغب في تجديد الاستقرار، فاستغل ثغرات القانون المغربي ليتزوج امرأة تمنحه استقراراً غير ممل، بمعنى غير آمن. ذلك هو الشرط الذي توفّر في الزوجة الثانية، ولو إلى حين.

كانت الزوجة الثانية مغنية شعبية بأداء متواضع في مجال الغناء. حاول أن يتملّكها بدورها، لكن ههيهات، فقد أتقنت اللعبة، وحافظت على مسافة الخطر.

في رواية "الملل" للروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا، هجر دينو أمه، وعالم الأغنياء الممل، لكي يعيش في استوديو بسيط. كان يمارس هوايته المفضلة، الرسم، لكن بلا شغف، فكان الملل يلاحقه مثل ظلّه أينما حلّ، إلى أن وقع في أحضان فتاة تافهة، على أمل تكسير الملل، لكنه لم ينج من الملل إلا بعد أن ظهر شخص آخر في حياة عشيقته، فبدأ يشعر بالخطر، وبالتالي خرج من عذاب الملل إلى عذاب الألم.

الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، قال في كتابه "مديح الحب": "لا وجود لحب آمن". حب آمن هو حب ميت بالأساس، مجرّد شبح خافت بلا روح

أكثر من فهمها هو شوبنهاور: الحياة مثل رقاص ساعة يتأرجح بين الملل والألم. نرغب في شيء، نتألم لغيابه، ونتوقع أن يمنحنا الحصول عليه السعادة المطلقة، ثم لا يمضي وقت طويل عن الحصول عليه حتى ندرك أنّ سعادتنا لم تكن كما توّقعنا، فينتابنا الملل، ونحتاج بالتالي إلى رغبة أخرى، وهكذا دواليك، في حلقة مفرغة تنقلنا من ملل إلى ملل.

في مجال العلاقات العاطفية قد يفضي تغيير موضوع الرغبة يوميا إلى عواقب كارثية على حياة الشخص. بعض المجتمعات حلّت مشكلة الرجل جزئيا عبر التعدّد، وملك اليمين، لكن ماذا عن المرأة؟ ماذا عن الأستاذة سلمى؟ فوق ذلك كله ماذا عن معضلة الرغبة، والتي إن لم يتم ترويضها فستبقى تدور بنا في الفراغ، من ملل إلى ملل، مثل حياة العاطلين الأثرياء؟!

قدَر الرغبة المتحقّقة أن تنتفي وتنتهي إلى الملل. بيد أن تعريضها لجرعة من التهديد ومقدار من الخطر، قد ينعشها مجددا، وعند الضرورة. على أنّ الجرعة يجب أن تكون متناسبة مع الموقف. وتقدير ذلك الأمر يُعدّ فناً ومهارة. 

قد تبدو اللعبة غير آمنة بالنسبة للكثيرين، هذا صحيح في كلّ الأحوال، لكن يجب علينا ألا ننسى عبارة الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، التي قالها في كتابه (مديح الحب): "لا وجود لحب آمن". حب آمن هو حب ميت بالأساس، مجرّد شبح خافت بلا روح.

يحتاج الحب إلى جرعات من التهديد والخطر إذاً.

ذلك ما سبق أن أكده شاعر روماني قديم اسمه أفيدوس في قصيدته الملحمية "فن الهوى". 

وذلك أيضا مما يعرفه المتصوّفة، وأهل العرفان، وهم العارفون بأسرار الوجدان.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني، ورئيس مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة (الرباط). صدر له عدد من الكتب، منها "التداوي بالفلسفة"، و"دليل التدين العاقل"، و"قلق في العقيدة" و"الوجود والعزاء". له مساهمات في بعض المؤلفات الجماعية، من بينها: كتاب بالإنجليزية تحت إشراف المستشرق البريطاني ستيفن ألف، بعنوان Reforming Islam:Progressive Voices From the Arab Muslim World، 2015.
سعيد ناشيد