التجربة الجامايكية وحذاء السيد وينستون (1)

05 فبراير 2023
+ الخط -

بدأت حكایتي یا سادة يا كرام، عندما دبّت فيّ النخوة "اللي ملهاش لازم" في هذا الزمن المادي، وقرّرت أن أشتري الحذاء الذي طلبه مني ذلك الرجل الجامایكي اللطیف، والذي كنت أظنه شاباً في عمري من طریقة كلامه وملابسه ونضارة بشرته المدهشة، قبل أن أكتشف أنه من جیل والدي، ومن غیر أن أعلم أنّ هذا الحذاء اللعین سیكون سبباً في مصائب ووقائع قادمة لا یتمناها أيّ شخص لعدوه، مهما كان لئیماً، أو بدا لطیفاً!

حدث كلّ ذلك عندما حصلت على عطلة مفاجئة من عملي، اعتبرتها هدیة سماویة، فقرّرت أن أذهب إلى أيّ بلد جدید تسمح به المیزانیة، وبعد أیام من البحث الممل عزمت رأیي واشتریت التذكرة، وحزمت الأمتعة، وشددّت الرحال إلى جامایكا.

كنت قد تعرّفت على السيد ونستون قبل ثلاثة أيام من موعد الرحلة عن طریق موقع یساعد هواة السفر على التواصل مع ناس من سكان المدن التي سیزورونها والتعرّف إلیهم، والمبیت عندهم أیضاً، وللأمانة لهذا الموقع أفضال كثیرة عليّ، حیث من خلاله التقیت بعشرات الأصدقاء من سكان البلاد التي سافرت إلیها، وتعرّفت على أماكن كثیرة لم أكن لأجدها من دونهم.

بعد التحیات وتبادل الأرقام أخبرت السيد ونستون أنني أرید أن ألتقي به من غیر مبیت، وسأكون ممنوناً لو یأخذني أو یدلني على أفضل الشواطئ والأماكن الطبیعیة والمهرجانات التي لا یصلها السیاح العادیون، وتحمّست لأنه أخبرني أنه یعرف كل شيء في جامایكا، وأنه مشهور جداً، وله علاقات مع العدید من الناس، من بینهم سیاسیون ومشاهیر.. إلخ.

لم أصدقه طبعاً، لكنني سررت بحفاوة الترحیب، كما سررت أیضاً لأنه قال لي إنّ بلدته ستقیم حفلة كبیرة في الیوم الذي سأصل فیه، وأنا مدعو إلیها طبعاً. وكعادتي، رفعت سقف توقعاتي كثیراً وأنا أتخیّل الأماكن السریة الخلابة، والحفلات الكاریبیة الفلكلوریة، والمطاعم التقلیدیة ذات المأكولات الشهیة التي سیأخذني إلیها السيد ونستون، امتناناً للحذاء الأبیض الجمیل الذي أوصاني علیه، عندما هبط عليّ الكرم الحاتمي وسألته عما یمكن لي أن أحضر له من أميركا. لم یخطر على بالي مطلقاً، أنّ كلّ ما سأفكر به في اللیلة التالیة، هو كیف سأنزع الحذاء اللعین من قدمه لفرط غِلّي مما حصل لي بسببه!

بعد أن حطّت الطائرة بي في مطار خلیج مونتیغو الواقع في غرب الجزیرة، وبعد جدال طویل مع موظف شركة تأجیر السیارات الذي أعطى السیارة التي حجزتها لسائح آخر، وصلت إلى الفندق الذي أدركت من حالته التعیسة أنّ نظام النجوم في تقییم الفنادق مختلف تماماً في جامایكا عن باقي دول العالم، حیث النجوم الثلاث المصنّف بها الفندق لا بد أن تكون من خمسین ولیس من خمس كما هو معلوم.

قبل أن أعرف ما ينتظرني رفعت سقف توّقعاتي كثیراً، وأنا أتخیّل الأماكن السریة الخلابة، والحفلات الكاریبیة الفلكلوریة، والمطاعم التقلیدیة ذات المأكولات الشهیة التي سیأخذني إلیها السيد ونستون

كنت قد اتفقت مع السيد ونستون على أن نلتقي في السادسة والنصف على الكورنیش. ذهبت قبل الموعد بربع ساعة، واشتریت عصیر قصب السكر من بائع متجوّل نصب عليّ، ثم جلست على الكورنیش "أمزمز" العصیر وأنظر من بعید إلى الجهة المقابلة للخلیج الذي كانت ترسو فیه باخرة سیاح عملاقة فیها آلاف الغرف، وسرحت بتفكيري، متخیلاً السيد ونستون، آخذاً إیاي إلى عشاء فاخر على أحد الیخوت الفارهة التي تمرّ كلّ فترة، أو إلى حفلة لعلیة القوم على تلك الباخرة.

وسرحت أكثر في أحلام یقظتي، وأنا أتخیّل صدیقي الجامایكي یعرفني على أحد أصدقائه الملیاردیرات الروس، والذي بدوره عرّفني على ابنته الشقراء الفاتنة التي "ماتت في دبادیبي"، بمجرّد أن نظرت إليّ، وقبل أن أعرّفها بنفسي على طریقة جیمس بوند، أفقت من أحلام یقظتي على صوت زمور قوي جداً، وإذا برجل نحیل ینادي عليّ من سیارة لادا ستیشن بیضاء، جار علیها الزمن وتمادى وتناذل أیضاً!

كانت السیارة سبعینیة، أو ثمانینیة التصنیع بأحسن الأحوال، بیضاء باستثناء باب بلون بني یشبه لون الحدید الصدئ، كما كانت كلّ نوافذها مظلّلة. سارت ببطء نحوي تتمایل على عجلتيها الأمامیتين بطریقة عجیبة كأنها فتاة غجریة تختال في مشیتها، وهي تصدر صوتاً عالیاً من محرّكها الذي یصدر فرقعات متقطعة بین الحین والآخر.

أكاد أجزم أن قطعة الخردة هذه كانت تسیر بدعاء وبركة والدة السائق فقط، لأنه من المستحیل، میكانیكیاً وعلمياً، لسیارة بهذا الشكل والمواصفات أن تتحرّك أو تسير. تأملت في حسرة تلك الخردة البیضاء، مودعاً كلّ أحلامي عن الیخوت والملیاردیرات وبناتهم الشقراوات، وفتحت بابها البني الذي كاد أن ینخلع في یدي، وركبت مع السيد ونستون، وانطلقنا مع مغیب شمس یومٍ لن أنساه في حیاتي.

(يتبع)

أنس أبو زينة
أنس أبو زينة
مهندس برمجيات وباحث في مجال الذكاء الاصطناعي، مقيم في لندن وأنتمي، ثقافةً وهويةً ولغةً، إلى الوطن العربي. مهتم بالسفر والاطلاع على حضارات العالم المتنوّعة وعادات شعوبها، سافرت الى إحدى وثمانين دولة حتى اﻵن، وأكتب عن المشاهد والقصص والمغامرات التي عشتها.