التاريخ مقلوباً... عن زمن تعاطي نصف المصريين الكوكايين والهيروين
ماذا لو أن أحدهم استعرض التاريخ مقلوبا؟ بمعنى أنه قلب روايته رأسا على عقب. تخيل معي الرأس الذي يمثل أبطال الرواية التاريخية ونخبتها وهي تنتحي جانبا ليتصدر مكانها المهمشون، أولئك الذين يذكرهم المؤرخ دوما بوصفهم الناس أو الجماهير أو الشعب..
أزعم أن الرواية حينها ستختلف بدرجة كبيرة، أو ربما تستحيل إلى حكاية مغايرة يلعب فيها الأبطال، أبطال الشعب ونخبة الجماهير، دورا مختلفا أو حتى مناقضا، فيصبحون مثلا جناة أو مجرمين في حق شعبهم الذي صنع منهم أبطالا وزعماء، لتمسي بطولتهم وزعامتهم مدعاة لأن ينحاز لهم التاريخ الرسمي على حساب الناس، المهمشين، وفي أحيان كثيرة الضحايا.
يمكن أن نخوض تلك التجربة معا، فنقلب الفترة التاريخية الممتدة من العشرينيات حتى مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي. لكن دعنا نتذكر أولا تاريخنا الرسمي وهو يحدثنا عما وقع من أحداث في ذاك الزمن، عن جهاد سعد زغلول وزملائه من أجل الاستقلال والدستور، وما كان يجري في الساحة السياسية بعامة من صراعات بين أقطابها، ثم استلام مصطفى النحاس الراية إثر وفاة سعد (1927) ليستكمل الزعيم الجديد النضال الوطني من أجل الاستقلال.
هذا موجز سريع لما أنبأنا به التاريخ الرسمي، وإذا تتبعناه حتى السطر الأخير لن نقع على كلمة واحدة عن مأساة عانت منها الجماهير في تلك الفترة، ورأى المؤرخون أنها لا تستحق الذكر، لأن تاريخهم تأريخ للأبطال والزعماء- الذين كانوا سببا رئيسا من أسباب هذه المأساة- وليس تأريخا للشعب.
أما لدى رواية التاريخ مقلوبا، يصبح الناس مبتدأ الحكاية ومنتهاها، وبداية حكايتنا ستكون من حدث الشعب الأهم في تلك الحقبة، ثورة 19، التي شارك فيها الجميع دون استثناء، أثرياء وفقراء، حضريون وريفيون، طلبة وعمال وحرفيون، حتى الموظفون الذين طالما نفروا من المشاركة في أي هبات أو انتفاضات سابقة (ولاحقة) أضربوا عن العمل، كذلك المرأة التي لم يكن شائعا أن تخرج من بيتها تظاهرت، ليسقط خلال الأحداث ما يزيد عن عشرين شهيدة، بينما بلغ إجمالي عدد الشهداء 3 آلاف، توزعوا على كافة المحافظات والمدن المصرية.
هذا غير المحاكمات العسكرية التي قضت على المئات بالجلد أو السجن لمدد طويلة، رغم ذلك ظلت الجماهير على فورتها حتى أذعن المحتل وأطلق سراح سعد ورفاقه ليسافروا إلى باريس ويعرضوا المسألة المصرية في مؤتمر الصلح، ثم يعاود المحتل الكرّة فينفي سعد ليعاود الناس الثورة، ويرضخ الإنكليز ثانية، فيسترجع الناس زعيمهم من منفاه (1921)، ولدى وصوله استقبله الشعب استقبالا، لم يتخلف عنه كبير أو صغير، رجل أو امرأة، في مشهد استفاض كثير من الكتاب والسياسيين حتى المخالفين لسعد وللوفد عن جلاله.
رغم عظمة المشهد وفداحة التضحيات عجز زعيم الأمة عن استثمار الحالة الثورية الأهم في تاريخنا، حيث استطاع سعد بمهارة لا يحسد عليها أن يخسر جميع مؤسسي الوفد الكبار (عبد العزيز فهمي، علي شعراوي، محمد محمود، أحمد لطفي السيد، محمد علي علوبة، عبد اللطيف المكباتي) ليمسوا خصومه، ويشكلوا وغيرهم من المنشقين أحزابا، وينشغل الكل بالصراع السياسي الذي استمر مع تولي النحاس زعامة الوفد، فيتراجع المشروع الوطني في الاستقلال، ويتلهى الجميع بالمعارك الحزبية. كان هذا سببا في تشكل مشهد يناقض المشهد الثوري ويعاديه، مشهد نبتت بذرة تكوينه، قبل الثورة بثلاث سنوات.
على عهدة راسل فإن عدد من توفوا جراء الأفيون (الأقل) انتشارا من الكوكايين والهيروين والحشيش سنة 1926 نحو 8 أشخاص، ليزيد العدد إلى 25 في العالم التالي، بينما توفي 13 في عام 1929 بسبب مخدر "الداتورة" فقط
في معمل بسيط للغاية وبأدوات متواضعة، استطاع كيميائي قاهري تصنيع مادة الهيروين، ومن صيدليته بدأ بيع المنتج الجديد، ثم ما لبث أن خصص عربات حنطور لترويجه، أما الزبائن فاقتصروا على شباب الأثرياء، ورغم أن الأرباح الكبيرة أغرت كثيرين بنشر هذه السموم، لكن انتشار الهيروين كذلك الكوكايين -الذي ظهر بذات الفترة- ظل محدودا.
وإذا تقدمنا قليلا، فقط سبع سنوات، بصحبة ضابط إنكليزي، هو توماس راسل، حكمدار العاصمة ومدير مكتب استخبارات المخدرات، يصف لنا حال المحروسة، تحديدا أحد أحيائها الشعبية العريقة، بولاق، الحي الذي غص بالتظاهرات أثناء أحداث الثورة وشهد كبريات المظاهرات النسائية، لتسقط في أحد شوارعه ثاني شهيدات الحراك "سعدية حسن".
يصف راسل ما كان يبصره الزائر لبولاق سنة 1928 بعدما أمسى بؤرة من بؤر المخدرات: "حطام بشر يرقدون في طرقات الحي، بوجوه شاحبة أقرب إلى الموت"، ويحكي أنه في إحدى الليالي مر بالمنطقة فجمع نحو مائتين من المتعاطين فألفاهم ينتمون إلى جميع الطبقات "عمال، أبناء ملاك محلات تجارية، فنانون، كتبة حكوميون، وحتى بعض أبناء الأسر العريقة. لقد تم تدميرهم جميعا بواسطة الهيروين"، وكان ذلك المخدر سببا في انتشار الملاريا المهلكة بسبب التعاطي من خلال الحقن.
قبلها بثلاث سنوات أقرت الحكومة قانونا يقضي بالحبس عاما وغرامة مائة جنيه على من يتاجر بالمخدر، وساوى التشريع بين امتلاك المخدرات والاتجار فيها، بعدما كانت العقوبة لا تزيد على غرامة بسيطة وأسبوع حبس، وتم تعديل القانون مرة أخرى لتصل العقوبة إلى خمس سنوات وألف جنيه غرامة، ضمن جهود الدولة لمواجهة الظاهرة الزاحفة على ربوع مصر كافة.
هناك مرجع آخر يشهد على ما كان يجري في تلك الفترة من وراء التاريخ الرسمي، كتيب صغير أصدرته جمعية "السيدات المسيحية لمنع المسكرات والمخدرات" بأسيوط سنة 1930، في طبعة ثانية 20000 نسخة! ويدلل الرقم على مدى ما بلغته الظاهرة من خطورة وانتشار.
يقص الكتيب قصصا وقعت بصعيد مصر تشير إلى فظاعة الوضع هناك حينها، منها رجل عرض ابنته لممارسة البغاء من أجل شراء المخدرات، وآخر سرق أبواب المقابر، وثالث باع كل ما يملكه حتى آخر دجاجة لتأمين جرعة الكوكايين، وسيدة حامل تموت بجرعة زائدة..
وعلى عهدة راسل فإن عدد من توفوا جراء الأفيون (الأقل) انتشارا من الكوكايين والهيروين والحشيش سنة 1926 نحو 8 أشخاص، ليزيد العدد إلى 25 في العام التالي، بينما توفي 13 في عام 1929 بسبب مخدر "الداتورة" فقط، أما الكوكايين والهيروين فقد أجهزا على 33 شخصا في ذات العام، ليصل عدد الضحايا إلى 68 حالة متنوعة بسبب المورفين والكوكايين والهيروين ومواد أخرى في 1931.
في تلك الفترة، بلغ من أصبحوا "عبيدا للمخدرات" قرابة نصف سكان مصر، ويذكر حكمدار العاصمة أن 6 ملايين من أصل 14 مليونا تعاطوا المخدرات وفق إحصائية أجرتها وزارة الداخلية سنة 1927، ورغم ما قد يحمله الإحصاء من مبالغة، إلا أنه يعبر عن وضع لم تعرفه البلاد، لا قبل تلك الحقبة ولا بعدها، لتصبح مصر وقتها الأولى في العالم من حيث عدد المدمنين، أمر أكدته بحوث ميدانية أجرتها ثلاث جهات حكومة بشكل منفصل، واتفقت نتائجها على أن 24% من الذكور المصريين كانوا مدمنين (1928).
وهناك من الأعلام (بخلاف الزعماء السياسيين المشغولين في نضالهم لا من أجل الناس بل ضد بعضهم البعض، فلم يسجل التاريخ إشارة أو كلمة أو خطبة لأحدهم عن تلك الكارثة الوطنية) من عاصروا هذه الفترة وانفعلوا بتلك النازلة القومية فكتبوا يحذرون، منهم الفنان الكبير سليمان نجيب، الذي سجل مبكرا جدا أحوال الشباب مع الكوكايين في مجلة الكشكول منبها: "لو تعلمون إلى أي حد انتشر (الكوكايين) لهالكم الأمر، أصبحت زجاجات الكوكو مع أغلبية شبابنا ألزم من رباط الرقبة، من المنديل، بل من زر الطربوش.. ".
ومن واقع وثائق دار المحفوظات البريطانية، يذكر الباحث رافائيل كورماك أن الكوكايين كان المخدر الأكثر شيوعا في تلك الفترة إلى أن أمسى "وباء مصر في الثلاثينيات"، بعدما "وصل لكل يد، حتى ليبدو أن الجميع قد قام بالفعل بتعاطي ذلك المخدر"، ورغم أن مصر عرفت المخدرات منذ أزمنة بعيدة، الحشيش تحديدا، لكنه ما كان شائعا أبدا إلا "بين العناصر الخشنة في الأحياء الفقيرة بالمدن الكبرى في القاهرة والإسكندرية"، فلم يعرف الحشيش مع غيره من أنواع المخدرات المستحدثة انتشارا مثل الذي شهده في هذه الفترة، إلا أن السردية الرسمية للتاريخ أغفلت تلك الكارثة الوطنية، ولم تبصر غير الأبطال والزعماء السياسيين المناضلين من أجل الأمة واستقلالها.
أما لدى قلب التاريخ نبصرهم، في المقدمة منهم زعيما الأمة سعد زغلول ومصطفى النحاس، يتقدمان لا كأبطال بل جناة، حينما وهبهم الشعب ثورة ليس لها مثيل في تاريخنا الحديث، فبددوا ما وُهبوا في صراعهم ضد بعضهم البعض الذي أملاه التفافهم حول الذات الشخصية لا الوطنية، فمنذ اللحظة الأولى وقف سعد زغلول معلنا أثناء المفاوضات مع الإنكليز "أنا الوفد والوفد أنا" حينما عاتبه بقية الأعضاء المفاوضين على انفراده بالرأي، لينفضوا من حوله، وينخرط الجميع من ساعتها في صراع الكل ضد الكل، وتستمر الانشقاقات بعهد خليفته، فيستغل الإنكليز والملك هذه الحالة لتثبيت سيطرتهما على مقاليد الحكم، ويستحيل الاستقلال إلى مجرد يافطة ترفعها الأطراف الوطنية لاستقطاب الجماهير في الصراع الحزبي.
بالتأكيد كانت هناك عوامل أخرى حرضت الناس على الهروب من واقعهم الأليم إلى المخدرات، فإضافة إلى أن العقوبات لم تكن قاسية بمعايير اليوم، شهدت تلك الفترة أزمات اقتصادية ارتبطت بالحرب العالمية الأولى، ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية 1929، لكن قطعا لم يكن الظرف الاقتصادي العامل الرئيسي وراء ظاهرة انتشار المخدرات ببلد تعود على التقلب في أزمات من هذا النوع مثلما يتقلب النائم في سريره.
كان طبيعيا والحال هكذا أن يتراجع الحلم القومي ويتردى الناس في مهاوي الإحباط واليأس، أو بالأحرى مهاوي المخدرات، بعدما تمخضت تضحياتهم وثورتهم العظيمة لا عن الاستقلال، إنما عن أحزاب متناطحة وزعامات متصارعة. هذه السردية جرى طمسها في الرواية التاريخية الرسمية، التي انحازت إلى أبطالها على حساب الناس، انحازت للأقوياء لا للمهمشين، للجناة لا للمجني عليهم، فغضت الطرف عن مآسيهم، وهو ما استهدفت تلك القراءة السريعة تعديله من خلال قراءة للتاريخ، وإن كان مقلوبا.