الإنسان العاري

11 فبراير 2024
+ الخط -

أعجبتني كثيرا هذه الاستعارة التي عمد إليها الكاتبان مارك دوغان وكريستوف لابي، وجعلاها عنوان كتابهما الصادر عام 2016، والذي سيحظى بترجمة مميزة لأحد المفكرين المغاربة، وهو الدكتور سعيد بنكراد، ولن يكون الكتاب الوحيد الذي سينال اهتمام الباحث الشغوف بالسيميائيات، بل هناك كتب كثيرة أخرى تعنى بهذا المجال، منها الكتاب المشهور "أنا أسلفي إذن أنا موجود"، وغيرها كثير، هذا بالإضافة إلى إبداعاته الخاصة.

أثارت إعجابي الاستعارة أعلاه، وإن كانت العبارة أصبحت اليوم حقيقة أكثر منها استعارة، حسب اعتقادي.

يناقش الكاتبان في كتابهما الإنسان الرقمي، أو الإنسان في عصر الرقمنة، حيث إن الإنسان أصبح اليوم عبارة عن بيانات بيد أصحاب الشركات الكبرى، والتي بدورها تقدم إغراءها له يوما بعد يوم لتأخذ المزيد من بياناته، سواء كان ذلك برضاه أم لا، لكن الحقيقة أن هذا الأمر لم يعد مقتصرا على الشركات الكبرى التي نستعملها، بل أصبح حياتنا، حيث إن جميع بياناتنا أصبحت اليوم لها نسخة رقمية، البيانات الشخصية، مثل الاسم، العنوان، الوظيفة، اسم الطبيب، نوع المرض، وغيرها كثير. وجود هذه المعطيات على شكل أرقام معناه بكل بساطة سهولة الاضطلاع والسطو عليها، ومن ثم استعمالها دون إذن صاحبها. ولا داعي للتذكير هنا بالكثير من الهجمات الإلكترونية، التي طاولت مؤسسات مالية ومراكز حكومية وغيرها.

الإنسان أصبح اليوم عبارة عن بيانات بيد أصحاب الشركات الكبرى، والتي بدورها تقدم إغراءها له يوما بعد يوم لتأخذ المزيد من بياناته 

هذا ربما هو الذي جعل من العلم أو الوعي بالمخاطر أو التهديدات الإلكترونية إحدى المهارات الأساسية التي ينبغي على الشباب تعلّمها في المستقبل، حيث إن حياتهم بدون شك ستصبح معقدة أكثر، فهم لم يعودوا معرضين للأخطار المادية، بقدر ما سيكونون معرضين للأخطار من مثل هذا النوع، وليس الأمر مقتصرا على الشباب، بل يهم الآباء، الحكومات، المؤسسات، وغيرها، فالتكنولوجيا يوما بعد يوم تثبت أنها المستقبل ولا مفر من هذه الحقيقة.

أحد الأفلام الأخيرة التي صورت هذا الأمر بشكل درامي هو الفيلم الذي حمل عنوان "اترك العالم خلفك"، حيث يصور كيف أن إحدى العائلات في إحدى عطلات التنزه تعيش حالة من الرعب، إثر تعرض المنطقة التي تعيش فيها إلى هجوم إلكتروني من أحد الهاكرز، وإن كانت وردت لقطة لم تعجبني في الفيلم، وهو ربط هذا الهجوم بالإرهاب، وطبعا وردت العبارة التي تعلن ذلك بالعربية، مما يعني ربطها بالمسلمين والعرب، لكن بغض النظر عن هذه الفكرة التي أصبحت نمطية، فالفيلم الذي هو اقتباس عن رواية تحمل العنوان نفسه، يقدم فكرة رائعة عن مدى خطورة الهجمات الإلكترونية في المستقل.

لن يكون ساعتها الإنسان قد فقد مجرد معطياته فقط، وإن كانت هذه ليست بالسهلة أيضا. تخيل أن نظام الطيران سيكون ذكيا، الأجهزة الطبية، المنزل بكل مكوناته، وغيرها كثير من المرافق الأساسية للمدينة، ولو نجح الولوج إلى هذه الأنظمة التي تدير كل هذه المرافق، وأصبح التحكم فيها من قبل أشخاص يحملون نوايا شريرة ولا يؤمنون إلا بالدمار فتخيل ما قد يحدث، حقا الفيلم قدم فكرة رائعة، وإن كان المتفرج سيرى أن ذلك لا يعدو أن يكون خيالا علميا، لكن ما نعيشه اليوم يؤكد أن الأمر خلاف ذلك.

مؤخرا في المغرب هناك قضية شغلت وسائل الإعلام، من مواقع وصحف إلكترونية، وذلك إثر تصريح أحد المهتمين بمجال الأمن الإلكتروني، حيث توصل بشكاوى من فتيات عدة يقلن إنهن تعرضن لاختراق إلكتروني، وأن بيانتهن سرقت، منها صورهن في وضعيات مخجلة، حيث إن هذه الصور والفيديوهات أصبحت متاحة على أحد المواقع التي تقدم مساحات لتخزين الفيديوهات والصور، لكن الغريب أيضا هو حديثه عن وجود فيديوهات التقطت عن طريق كاميرات المراقبة. من يقرأ مثل هذه الأخبار لا يسعه إلا أن يتأكد من حقيقة التعبير الإنسان العاري، وليس مجازيته.

مثل هذه الأمور بدون شك ستكون لها آثار كارثية، وبشكل خاص على الجانب النفسي لهؤلاء الفتيات، واللائي معظمهن غير واعين بمخاطر هذا الأمر، وخاصة إذا ما تذكرنا أن التكنولوجيا لها ذاكرة لا تنسى، وهذا الأمر سبق وتحدثت عنه في تدوينة سابقة، فهذه الصور أو الفيديوهات مهما طال الزمان ستظل موجودة، وليس هناك أسوأ من هذا الاحتمال يمكن أن يقع للأشخاص، والذين لا يستطيعون العيش في حي واحد لمدة سنة.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".