الأهبل أبو خربوش مختص جراحة عامة

15 يناير 2024
+ الخط -

بناء على طلب صديقي أبو سعيد، وإلحاحِه؛ تابعتُ سرد حكاية الفتى الأهبل الكذاب أبو خربوش الذي ترك العمل في المخرطة، بعدما طرده المعلم أبو حسن، ثم أصبح، بناءً على تخطيط والده، عاملَ تنظيفات في عيادة الطبيب فيكتور. وقلت:

- الظريف، المثير، الجميل في هذه السالفة، أن أبو خربوش بدأ ينقل أخبار عمله في عيادة فيكتور إلى رفاقه المتشردين في ساحة الخضار، دون أن يأتي على ذكر أداتي التنظيف، المكنسة والفرشخانة، اللتين ينحصر عمله بهما. صار يحكي لهم، بدلاً من ذلك، عن متاعبه في مجال الطب والتمريض، وبالأخص خياطة الجروح.. ثم يستدرك قائلاً: 

- لو أن الأمر اقتصر على خياطة جرح رجل مشارك في مشاجرة، ومتعرض لضرب بسكينة قندرجية، لهانَتْ، كلها على بعضها خمس قطب، ست قطب، ثم نضع له على الجرح سبيرتو ونصرفه. أما أن يشغلني فيكتور تحت يده مثل الحمار، فهذا ليس من العدل.

قال أبو سعيد: هذه أنا لم أفهمها.

- بسلامة فهمك يا أبو سعيد. يقصد أبو خربوش أنه يستطيع إنجاز العمل في الحالات الإسعافية، وخياطة جروح المتشاجرين، المضروبين بالسكاكين أو الشنتيانات أو البكوس الحديدية، وحتى استخراج رصاصة من الساق، بسهولة، وأما أن يكلفه الطبيب فيكتور بالعمل بصفة مساعد طبيب جراح، فهذا استغلال واضح.. وقد اشتهرت عن أبو خربوش تلك العبارة العجيبة (فيكتور يفتح، وتعال يا أبو خربوش رَجّعْ كل شي لمكانه!)، وتعني، بالضبط، أن الدكتور فيكتور يُدخل مرضاه إلى غرفة العمليات، يفتح بطونهم، ويُجري لهم ما يلزم من عمليات جراحية، ثم يطلب من أبو خربوش إعادة المصارين والغدد والمكونات الموجودة داخل البطن إلى مكانها، فينزل أبو خربوش عند رغبة الطبيب، ويذوق الأمرين في خياطة الجروح وتعقيمها، ثم يضع المريض على النقالة، ويرسله مع العمال إلى جناح الاستشفاء.. 

ويختم أبو خربوش كلامه بالتذمر من أن شغل الجراحة متعب، وأنه يفكر جدياً في ترك العمل عند الطبيب فيكتور! 

ضحك أبو سعيد، وقال: كيف هذا؟ على علمي أن فيكتور لم يكن طبيباً جَرَّاحاً. 

- قبل أن أجيبك عن هذا السؤال، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، هل تعرف حكاية الشاعر الفرزدق مع مَرْبَع؟

- تقصد مربع المقصود بقول الشاعر جرير: 

زَعَمَ الفرزدقُ أنْ سيقتلُ مَرْبَعَاً 

أبشرْ بطول سلامة يا مَرْبَعُ؟

- نعم. وأنا أرى أن هذا ليس مجرد بيت من الشعر، إنما هو قصة، يمكن لأي كاتب أن يستغلها، ويطورها، ويجعل منها ملحمة حكائية رائعة.

- كيف ذلك؟

- نفترض أن مربع لم يهتم لتهديد الفرزدق له بالقتل، كما قال جرير، لذلك لم يَخَفْ، ولم يختبئ، بل إنه خطب فتاة جميلة، وتزوجها، وأقام عرساً على بيدر القرية، والناس دبكوا على إيقاع الطبل، وأطلقوا النار في الهواء، وأحضروا له الهدايا (السياقات)، والنساء الجالسات على سطح أحد المنازل زغردن، وهنهنت شقيقته "رابعة"، وقالت:

أوها، ياما قعدوا في الزقاقات

أوها، وياما حلفوا بالطلاقات

أوها، وقالوا أخي مربع لن يتزوج

أوها، تزوج وفَقَّع المرارات 

وما هي إلا سنة واحدة، يا أبو سعيد أفندي، حتى كان لدى مربع توأمان صبيان جميلان، وبلا طول سيرة، بعد عشرين سنة، صار عنده 12 ولداً، وتشاء الأقدار أن تصاب امرأته بمرض عضال، وتموت، وهو ما يزال في الأربعين، فيتزوج امرأة صغيرة، وهي الأخرى تباشر بـ (بَظّ) الأولاد، حتى يصير مجموع أولاده 25.. ومع دوران الأيام وتوالي السنين، يكبر أولاد مربع وبناته، ويتزوجون، وتقام أعراسهم على البيادر، ويتوالدون، وبعد ربع قرن من الزمان تموت زوجته الثانية، وفي هذه الأثناء يبلغه خبر موت الشاعر الفرزدق، فيحزن لوفاته، فهو يراه شخصاً طريفاً جداً، (يهدد ولا يفعل!)، ويموت الأخطل، وراوي القصة جرير الذي كان قد قال في بيت شعر آخر:

لما وضعتُ على الفرزدق ميسمي

وضغا البعيثُ جدعتُ أنف الأخطلِ

ويموت النقاد، والمؤرخون الذين عاصروا تلك الحركة الأدبية، وأرخوا لشعراء النقائض، ويبقى مَربع، الشيخ العجوز المكحكح، الذي ما عاد يجد امرأة ترضى به، حجتهن في ذلك أن بقاء المرأة الأرملة في دار أخيها، تأكل القليل، وتشرب القليل، أحسن من أن تبتلى بعجوز خرف، يسعل ويطلق الغازات، ولا يصلح للسيف، ولا للضيف، ولا لغدرات الزمان.. ولم يكن في أيام مربع جمعيات أهلية تؤوي العجزة، فيضطر أحفادُه لأن يضعوا برنامجاً لاستيعاب جدهم الخرفان، فيقعد عند كل ولد، أو بنت، أسبوعين، يتعرض خلالهما لكل أنواع التذمر، والإهانات من أبناء أحفاده، الذين يقولون، بحضوره، وبكل صراحة، متى سيخلصنا ربنا سبحانه وتعالى من هذا الجد التعبان الذي لا يرى (ما بيطس)، ولا يسمع، ومع هذا يستفهم عن كل شيء، ويضطرنا لإعادة القصة الواحدة عشر مرات؟

- أقول لك الصدق، يا أبو مرداس، هذه القصة مدهشة، ولكن ما علاقتها بقصة أبو خربوش؟

- يا سيدي، سأوضح لك ذلك. فنحن يجب ألا نكتفي بالقول إن الطبيب فيكتور ليس جراحاً فقط، بل يمكننا أن نحكي قصته مع موضوع الجراحة، فنقول إنه، حينما كان في كلية الطب، عاد إلى بيته، ذات مرة، في وقت مبكر، وكان وجهه مخطوفاً، وأعصابه تالفة، فلما رأته والدته الحنونة على هذا الحال ولولت، وصاحت: خير يا ضناي؟ هل أنت مريض؟ عيان؟ متشاجر مع أحد؟ فخرج والده من غرفته مسرعاً، وهو يقول: ما الحكاية؟ ماذا دهاكِ يا ولية؟ ولما رأى ابنه فيكتور مصفر الوجه، سارع إلى إسعافه، بكأس ماء بارد، واحتضنه بحنان، وانتظر عليه حتى هدأ، وسأله عما جرى له، فقال فيكتور إنه يريد أن يترك كلية الطب، وينتقل إلى أية كلية أخرى، فقد داخ، في درس الجراحة العملي، لأنه لا يطيق رؤية المشارط والمقصات وهي تعمل في جسم إنسان من لحم ودم. وبلا طول سيرة، كان والده على صلة بأحد الإداريين في مديرية شؤون الطلاب، ذهب إليه، وعرض عليه الأمر، فرافقه لزيارة عميد كلية الطب، وهناك حصل اتفاق (جنتل) يقضي بأن يُعفى فيكتور من حضور دروس الجراحة (التطبيقية العملية)، ويكتفي بدراسة مادة التشريح النظرية، وهكذا صار بإمكانه المتابعة، وبالفعل تابع دراسته، واختص بالأمراض الداخلية، وخلال عمله في مدينة إدلب كان يرفض استقبال أي نوع من الإصابات التي تحتاج إلى جراحة إسعافية بسيطة. فتخيل، كم كان أبو خربوش بارعاً في تأليف الأكاذيب.

 

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...