الأخلاق والاستدلال
سعيد ناشيد
لا تُبنى القيم الأخلاقية عن طريق الوعظ والإرشاد، والإكثار من النصح والنصائح. هذا المنهج فاشل في كلّ تجارب الأرض، بل تأتي النتائج عكسية على الدوام. لذلك فالمجتمعات التي تعتمد عليه هي الأكثر فساداً، غشاً، رشوةً، وتحرّشاً. إذن، فما الذي يجعل الإنسان يتمسّك ببعض القيم الأخلاقية مهما كانت الظروف؟
صحيح أنّ فكرة الجزاء الأخروي قد تلجم الإنسان أحياناً، لكن اللجام هنا لا يخلو من هوامش للمناورة: الغفران، الشفاعة، الذرائع، النوايا، الاضطرار، إلخ. قد تكون فكرة الجزاء الأخروي ملجمة للكثيرين، لكنّها غير كافية للتمسّك بالقيم الأخلاقية التي تؤطر السلوك اليومي، طالما ينقصها البرهان القائم على المنفعة المباشرة، والذي هو أساس البناء الأخلاقي المتين.
"كن صادقا ومخلصا في عملك"، مثل هذا الكلام جميل ونبيل، سواء سمعتَه من داخل الأديان أو من داخل الفلسفة، لكن السؤال هو، لماذا؟ فلا شيء يرسخ في عقلك بدون برهان؟ ذلك أنّ السؤال: لماذا؟ لا يعني التشكيك كما يذهب ظنّ الكثيرين، بل هو فرصة لتثبيت الأساس الذي يقوم عليه البناء الأخلاقي، لئلّا ينهار سريعاً.
ينبغي إعادة بناء الأخلاق على أساس المنفعة المباشرة، لأنّ هذا هو أساس البناء الأخلاقي المتين، وهكذا ينبغي القول: حين تكون صادقاً ومخلصاً في أعمالك وأشغالك ومجالك، فإنّك تكتسب الخبرة بسرعة، تنمو بسرعة، تتفوّق بسرعة، وفي النهاية ستفرض نفسك في مجالك، وهذا يجلب الاعتراف والرضا والمال.
قد تكون فكرة الجزاء الأخروي ملجمة للكثيرين، لكنّها غير كافية للتمسّك بالقيم الأخلاقية التي تؤطر السلوك اليومي
وحين تكذب على الناس كثيراً، ففي النهاية لن يصدّقك أحد، حتى حين تكون محتاجاً إلى من يصدّقك، وستخسر كثيراً من الاعتراف والرضا والمال.
يُذكرنا هذا كلّه بواجب الصدق لدى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، والذي يردّ عليه الكثيرون، بترداد المثال الشهير: "يهودي يختبئ في بيتك، فجأة تطرق شرطة هتلر الباب وتسألك: هل يوجد في بيتك يهودي؟ سيكون الصدق هنا جريمة ضد الإنسانية".
لعلها ورطة كانط كما يستخلص الكثيرون. لكن.. رغم أنّ شرطة هتلر لن تطرق بابك، بل ستكسره لمجرّد الشك، ولن تسألك بل ستأمرك لمجرّد الظن، إلا أنّ المثال فرصة لإعادة بناء القاعدة الكانطية دون التفريط فيها.
الخلل ليس في الواجب، بل في الاستدلال، لماذا ينبغي ألّا تكذب؟
الاستدلال الكانطي مشوب بحلقة مفرغة: يجب ألّا تكذب لأنّ الصدق واجب! وبناء عليه، إذا سألك لص "أين تضع محفظتك لكي أسرقها؟"، فلا تكذب! وإذا سألك إرهابي: "أين يوجد أقرب مرقص لأزرع القنبلة؟"، فلا تكذب! وهكذا..
هنا الورطة، إلا أنّ تفاديها يتطلب إعادة بناء الاستدلال: لماذا يجب عليك ألا تكذب؟
لا يتطلب منك الكذب أيّ جهد يُذكر، لكنك ما أن تكذب حتى تحتاج إلى جهد دائم لإخفاء الكذبة. ذلك الجهد سيُطوّق عنقك زمناً طويلاً، ويستنزف طاقتك وذكاءك، وستجد نفسك ضحية كذبتك.
أعرف صحافياً ادّعى أنه حاصل على البكالوريا، فاستطاب الأمر بادئ الأمر، لكن الكلفة بعد ذلك أنّه حرم نفسه من الترّشح لكثير من الفرص التي أتيحت له، بما فيها البكالوريا الحرّة، لئلا تنكشف كذبته.
حين تكذب على الناس كثيراً، ففي النهاية لن يصدّقك أحد، حتى حين تكون محتاجاً إلى من يصدّقك
أعرف مدرباً رياضياً يدّعي أنه حاصل على الحزام الأسود في الكاراتيه، والمشكلة أنّه حين صار قادراً على اجتياز امتحانات الحزام الأسود لم يجرؤ لئلا تنكشف كذبته، فحرم نفسه بنفسه مما كان يستحقه. إذن، لا يمكنك أن تكذب دون أن تكون ضحية كذبتك.
طبيعيّ، والحال كذلك، أنّ من يكذب عليك مرّة سيظل يكرهك، ما دمت تُذكره بالورطة التي تطوّق عنقه. وتلك حجّة إضافية لفائدة واجب الصدق، إلا أنّ إخفاء الحقيقة قد يندرج في بعض المواقف ضمن الصدق.
سأوضح بالعودة إلى المثال السابق: إذا سألتني شرطة هتلر عن صديقي اليهودي الذي يختبئ عندي، فسأخفي الحقيقة، لكنّي سأنتظر بفارغ الصبر فرصة أن أجهر بكلّ فخر بأنّي أخفيتُ عنهم الحقيقة. ما يعني أنّي لستُ أمام كذبة سأخجل من كشفها.
ليس منبع الفخر هنا أنّي كذبت، بل منبع الفخر أنّي كنت صادقاً في حماية صديقي، وكنت شجاعاً أيضاً.
أساس القاعدة الأخلاقية ليس هو "قل الصدق"، بل "كن صادقا". والورطة كلّها هي عدم إدراك الفرق.
حين يرفض معتقل في سجون الاحتلال أن يشي برفاقه، فإنه يكون في أعلى درجات الصدق والشجاعة أيضاً. هكذا ستكون قاعدة الصدق: كن صادقا.. وحين يملي عليك الواجب الأخلاقي ألا تقول الصدق، ستكون صادقاً.
وهكذا يكون جزاء الأخلاق في النهاية: إنّ مشاعر الفرح التي تغمرك حين تساعد شخصاً محتاجاً هي الجزاء المباشر لأفعال التعاطف، وهذا كاف لإقناع الإنسان بأعمال الخير، فليس مطلوباً من التنشئة الأخلاقية سوى التركيز على ذلك الجزاء المباشر، والذي لا ينتبه إليه الكثيرون، فيضيعونه أملاً في أمل معلّق. غير أنّ كلّ الآمال معلّقة، والآمال لا تصلح في النهاية للاستدلال. ولأجل ذلك، ينبغي إبعاد الأخلاق عن الآمال!