اجتماع طارئ بين أبو عناد والدائنين

17 ديسمبر 2022
+ الخط -

حصلت تطورات ظريفة، نتجتْ عن اقتناع "أبو عناد" بالفكرة التي طرحها عليه صديقُه أبو سليمان، وهي: سَحْب قرض من مصرف التسليف الشعبي، وتسديد الديون المتفرقة (الفراطة) المترتبة عليه.. وهذا، بحسب أبو سليمان، يحرره من قيود الحركة والتنقل، لأنه ليس من الحكمة أن يمضي حياته مرتبكاً، مطارَداً، يتجنب المرور من ثلاثة أرباع أزقة المدينة، خوفاً من أن يلتقي بِدَائِنٍ، يطالبه بدَيْنه المستحق.

سألني أبو صالح (الذي كنت أروي له هذه السالفة عبر الهاتف)، عن التطورات التي قصدتُها. فقلت:

- حينما حكى لي أبو عناد هذه القصة، قال لي إنه يحب قولَ الشاعر "أبو نواس":

دع عنك لومي فإن اللومَ إغراءُ

وداوِني بالتي كانت هي الداءُ

ولذلك؛ وبمجرد ما تلقفَ فكرةَ القرض البنكي من صديقه أبو سليمان، تأبط يده، ومشيا في الزقاق المؤدي إلى الشارع الرئيس، الذي يمر أمام ثانوية المتنبي، هكذا علناً، غير هَيَّاب ولا وَجِل، حتى وصلا إلى مقهى الريحاني، فدخلا، وكان هو يتقصد أن يطنّب (أي يرفع رأسه مزهواً)، أثناء المسير، متمنياً لو يلتقي بأحد الدائنين، فيلقي عليه سلاماً على العريض، بصوت خشن، مثلما كان أبو عنتر يسلم في مسلسلات غوار.

المهم؛ جلس أبو عناد، مع صديقه أبو سليمان، في المقهى، على كرسيين متقابلين، وقال للنادل أبو مُريد:

- هات تنين أركيلة عجمي، وتنين شاي أكرك يا (ولد).

تقدم منه أبو مريد، وقال له:

- أول شي أنا أكبر منك بالعمر، يعني ماني ولد، وثاني شي، لا تحلم بأن يَعبر نربيش أركيلة إلى بوزك، قبل أن تسدد الدين الذي عليك، يا ولد!

رد عليه أبو عناد، بطريقته التي يستحيل أن يُعرف الجِدّ فيها من المزاح، قائلاً:

- ليس من الصواب أن تزعل من كلمة (ولد)، فأنا، والله، أتمنى لو أنني كنتُ الآن ولداً، ثم أكبر من جديد.. لو حصل هذا الأمر، لتحررتُ، أولاً، من الدَيْن الذي لكم علي، ووقتها أستطيع أن أستدين من جديد، باعتبار أن صفيحتي عندكم تكون بيضاء. وثانياً، لو عدت بالعمر إلى الوراء لأعدت النظر في عدد الأولاد الذين سأخلفهم.. ما رأيك لو كان عندي، مثلاً، بنت وولد. أليس هذا كافياً؟ وثالثاً؛ كنت سأستغل وقت الدوام في المالية بعمل يدر عليّ دخلاً يغنيني عن نسبة كبيرة من الديون التي ترتبت علي، أحسن من عمل بيع الشماسي الذي مارستُه، فكنت سبباً في احتباس المطر، فتَضَرَّرَ، بسببي، فلاحو إدلب كلهم! المهم، يا حبيبنا أبو مريد، نحن جئنا، أنا ووجه الخير هذا، أبو سليمان، في هذا النهار التاريخي، إلى هذا المقهى التاريخي، لكي نسوي موضوع الديون كلها، وبضمنها ديون مقهاكم، وأتمنى أن تلعب أنت دوراً فاعلاً في هذا الموضوع، وهو أن تبلغ كل الزبائن الذين لهم علي ديون، أنني أريد أن أجتمع بهم، هنا، في تمام الساعة الثامنة مساء، لبحث الموضوع، والخروج من الاجتماع بحلول مرضية لجميع الأطراف.

دهش أبو مريد، وقال مخاطباً "أبو سليمان":

- ماذا يقول صاحبك أبو عناد؟ على علمي ليس له أقارب في بلاد بره، يبعثون له مصاري، ولا يوجد عنده شيء هنا في إدلب يمكن أن يباع، وداره جربانة، يعني، من المستبعد أن يكون قد عثر فيها على كنز، فمن أين سيأتي بالمصاري ليدفع للدائنين ديونهم؟ 

لم يسمح أبو عناد لصديقه أبو سليمان بأن يجيب أبو مريد عن سؤاله، وقال له: (المساء، في الاجتماع، تعرف كل شيء). واستطاع إقناعه بتنفيذ طلبه بدعوة الدائنين إلى اجتماع مسائي.

في المساء، حينما التم شمل الدائنين، وقف أبو عناد يخطب فيهم، بلغته الملتبسة، قائلاً إن الرجل الذي يجوع أكثر، يأكل بشكل ألذ، ولعبة توم وجيري ظالمة، لأن القط أقوى من الفأر، وذكاء الفأر لا يفيده إلا في الاختباء مؤقتاً عن أعين القط، وفي المحصلة لا بد أن يعلق في الفخ. ولكيلا يذهب تفكيركم بعيداً، أنا أشبّه نفسي بالفأر، وأنتم، ما شاء الله، قطط سمان، بل هوارين (جمع هارون وهو القط الكبير القوي)، وأنا لم أترك وسيلة للاختباء منكم إلا واتبعتها، حتى إنني كنت أمشي فوق الأسطحة، وفي الأزقة المهجورة، ومع ذلك، لا يوجد بينكم دائن واحد إلا وضبطني متلبساً، حتى إن الأخ أبو درمش، الله يطول لنا عمره، زارني في المالية، ورآني أدخن سيكارة "حمراء طويلة"، فزعل مني زعلاً شديداً، ودَبّ الصوت في المالية، حتى الْتَمَّ الموظفون، من كل حدب وصوب، ليتفرجوا علي وأنا أتلقى منه التوبيخ والبهدلة، وألقى أبو درمش خطابة طويلة يمكن تلخيصها بأن الإنسان المديون، مثلي، حقير، وواطي، بدليل أنه يماطل في دفع الديون المستحقة عليه للناس، وفي الوقت نفسه يبذر النقود في تدخين الحمراء الطويلة.. ولم تنتهِ المشكلة في ذلك اليوم المشؤوم، حتى أعطيت للأخ أبو درمش وعداً، وأشهدتُ عليَّ كل الوجوه الطيبة الذين كانوا ملتمين حولنا، بأن أدخن – من الآن فصاعداً - حمراء قصيرة.   

حينما وصلتُ في سرد قصتي إلى هذه النقطة، توقعت أن يضحك أبو صالح الذي يسمعني على الطرف الآخر من الخط. ولكنه سكت. أو كما يقول أهل بلدتنا معرة مصرين (صَنّ)، حتى ظننت أن الخط انقطع. ولكنه تكلم أخيراً، وقال لي: هل تصدق؟ لا يوجد أجمل من شخصية "أبو عناد". صحيح أنه فقير، ومديون، ومنحوس، ولكن كل شيء في تصرفاته ظريف، ومضحك، ومبهج. والشخص الذي يصغي لسيرته يتمنى لو أنه رجل ثري، وعنده مضافة، وبدلاً من أن يجتمع الناس عليه ليحصلوا ديونهم منه، يجتمعون عنده، ويصغون إلى سوالفه الجميلة.

(للقصة تتمة)

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...