أهل غزّة.. بشر لا أساطير
صحيح أنّهم يشبهون الكائنات الخارقة، في صبرهم، وفقدهم، ومواصلتهم الحياة رغم كلّ شيء، في تعاملهم مع المحرقة، في تأقلمهم مع المجاعة، في محاولتهم النجاة والمقاومة، ولو في النفس الأخير، لا يشبهون أحدًا، ولا أحد يشبههم، ثلةٌ مختارة من أهل الدنيا، وجماعة مصطفاة بين كلّ الناس، يُشعرونك كلّما نظرت إليهم من بعيد، من خارج البرواز المحاصرين داخله، أنّك تنظر إلى كائنات من عالم آخر، أتوا الأرض لمهمة محدّدة، وهي أن يعلمونا معاني البطولة والفداء والبسالة والنبل، ثم يمضون إلى منبعهم الذي خرجوا منه، ونبقى نحن نحاول توارث الدرس الثمين.
لكن ذلك، من حيث لا تدري، يضعك في خانة لا يحبونها، وإن كانت على هواك، وليست إنسانيةً من أيّ جانب، حين تحاول أن تستغل تلك "الأسطرة" لتخدير ضميرك، وتخفيف أوجاعك، وتسكين ذاتك التي تجلدك، من أنّهم سيتحملون، مهما حصل سيرتفعون كالعنقاء مجدّدًا، وسيستيقظون كالفينيق من تحت الركام، مهما نزفوا من دماء، ومهما بذلوا من أرواح، مهما تساقطت اللحوم، وانصهرت الجلود، مهما فُقد من أولاد، ومهما تهدمت من ديار، سيبقون دون صراخ، دون جنون، دون سؤال يصل عنان السماء، ممزوجًا ببكاء مرير لصوت مليوني إنسان يقولون "يا رب"!
يجوع أهل غزة؟ لا بأس، أعانهم الله، وثبّتهم، وأطعمهم، وقلوبنا تتحرّق من أجلهم، لكنهم "قدها وقدود"، لكن الحقيقة المرة للغاية أنّ الجوع يعني الجوع، والصبر يعني الصبر، الصبر يجعلك لا تكفر وسط ذلك كلّه، لكنها لن يكفي المعدة عن القرقرة، ولا يمنع البطن من التوجّع، ولن يغني الأمعاء عن المواء، الجوع جوعٌ، وجوعان، ومائة جوع، حين لا يجد الإنسان ما يأكل لستين يومًا، وتكون آخر وجبة هنيئة للطفل، بها ما يحتاج من عناصر ضرورية يوميًّا، قد حدثت قبل أربعة أسابيع من الآن، وأن يصرخ الرضيع بحثًا عن حليب أمه، فلا يجد حليبًا، ولا يجد أمه.
أهل غزّة... أتوا الأرض لمهمة محدّدة، وهي أن يعلمونا معاني البطولة والفداء والبسالة والنبل
يظمأ أهل غزة، فيشربون من تحت أرجلهم حرفيًّا، المرار والملوحة والمياه العطنة، لأنّهم بشر، يحتاجون إلى البقاء على قيد الحياة، ولم يكونوا يتصورون أنهم مهدّدون ذات يوم، بالموت ظمأى، وهم أعزّ أهل الأرض وأكرمهم وأغناهم نفسًا وأعفّهم قلبًا وأسخاهم يدًا! ثم هم اليوم يصطفّون على الخبز من الفرن، وعلى طحين الأونروا، وعلى دعم الدول، بما تتضمنه من حقارة ومنٍّ وأذى، فقط، لأنهم يريدون أن يأكلوا، أن يشربوا، أن يُطعموا صغارهم، أن يدفأوا من برد الشتاء والجو القارس، وأن يحتموا من نيران ألعن أهل الأرض الهابطة عليهم من السماء!
يبكي أهل غزة، ويجوع أهل غزة، ويظمأ أهل غزة، وينهارون، ويصرخون، ويسبون، ويلعنون، ويستغيثون، ويناشدون، ويضعفون، ويلومون، ويندمون، ويتنازلون، ويحاولون التماسك، والتمثيل، والتظاهر أنهم بخير، ويستعينون بالله ونفوسهم العزيزة على التهاوي أمام عيون لن تحرّك ساكنًا، ليس لأنهم "أساطير" طوال الوقت كما يحب المتفرجون أن يروا أبطال المسلسل، ولكن لأنّ دموعهم العزيزة، وضعفهم النادر، لا يستحق ظهوره أمام تلك الجماهير الوقحة.
أهل غزة؟ بشر، يا عالم، تعبوا، وأنهكوا، واستنزفوا، لا أساطير من خيال المؤلف المريض، الذي يبحث عن "حبكة" تنزع عنهم إنسانيتهم، بينما تحاول تصويرهم كملائكة؛ فهم بشر أجل، ولكنهم أشرفهم، وأكرمهم، وأعزهم، وأقواهم على الجلَد، والشرف، والمقاومة.