أسيادُ الحقل أو عبيدُ السوق؟
الصوتُ الذي كانَ يُرافقُ البثَّ المباشر للتلفزيون من تلك البقعة المجهولة في الصين، كان أشبه بضجةِ جهازِ "التوكي ووكي" الذي يستخدمه برجُ المراقبة مع الطيارين في قمرةِ القيادة. ضجةٌ يتخلّلها كلام باللغةِ الصينية، يغطي عليها بين الفينة والأخرى صوتُ المترجم الفوري إلى اللغة العربية ولهجته التي تشي، بابتلاعه لبعضِ الحروف واستعجاله لفظ بعضها الآخر، بأنّه صيني.
تابعتُ البرنامج كإجازةٍ أَجبرتُ نفسي عليها للراحةِ من كمّ الأخبار السيئة عن منطقتنا. كان البثُّ يُواكب كبسولةً فضائيةً عائدةً من مهمةِ إقامةٍ لستة أشهر في الفضاء، والتي هبطت في تلك البقعة الجرداء تماماً. أعادَ المشهدُ إلى الذاكرة صورةً أخرى غرزت عميقاً في ذاكرة البشرية: الأميركي نيل آرمسترونغ يطأُ بقدمه البشرية وجهَ القمر المبرقش، ويزرع في "أرضه" (هل تصح تسمية تربة القمر بالأرض؟) علماً لا يُرفرف، كما لو كان من البلاستيك.
يتفاخرُ المعلّق الصيني بدقةِ موقعِ هبوط "كبسولة العودة"، وبتمامِ المهمة الطويلة المُسمّاة "شنتشو 17". ثم يبلغنا، نحن القابعون في هذه البقعة من الكوكب، والمشغولون بمجرّد محاولة إبقاء وجود أوطاننا على الخريطة، أنّ عدد مهام الإطلاق الفضائية في بلاده قد بلغ، العام 2023 وحده، 67 رحلة! آه يا قلبي.
أتابعُ إخراجَ روّاد الفضاء الثلاثة من الكبسولةِ الضيّقة، ثم يُخبرنا المعلّق بأنّ الفريق التقني سيقوم برفعِ عيّنات مجهرية عن ملابس رواد الفضاء الثلاثة، إضافة لعيّنات أتوا بها من تجاربهم في الفضاء على الزراعة والتفاعل مع محيطاتٍ غير صديقة.
تنبهت فجأة إلى أنني، ومنذ فترةٍ طويلة، لم أعدْ أسمع بكلمة "زراعة" في الفضاء العام. كما لو كانت نشاطاً انقرضَ من التداول، نشاط قديم يكادُ يكون تلقائياً، لا يحتاجُ لاهتمامنا. أو كما لو كانت المفردة تعودُ إلى قرنٍ سابقٍ لقرنِ الاستهلاك المفرط، إلى كوكبٍ متخلّفٍ، بعيدٍ في أقاصي الريف أو أعالي الجبال، شيء ما حدث في الماضي.
الصين التي كانت تجوع سابقاً، تُطعم حقولها اليوم خمس البشرية. تصوّروا! رحلة الصين بين الواقعين لم تستغرق أكثر من سبعين عاماً
لكن الزراعة في الفضاء؟ أعادتْ الكلمة الأخيرة، المفردة الأولى إلى الحياة في مخيّلتي، هذه المخيّلة التي كانتْ دائماً مسحورةً بعالمِ الزراعة، أو على الأصح بعالم النبات. هذا العالم الذي تصوّرته دائماً محفوفاً بشيءٍ من السحرِ الغامض، بحكايات بكماء تريدُ البوحَ بنفسها، وتحتاجُ للإنصاتِ إليها بكلِّ حواسك لتفهمَ ما تقصه عليك من أسرارِ الطبيعة.
وفي مراهقتي، تحمّست كثيراً إثر قراءتي رواية ألكسندر دوما "الزنبقة السوداء"، لدراسةِ علم تهجين النبات. لكن ظروف البلاد التي كانت تخوضُ حرباً أهلية تمنع حتى حريّة التنقل بين شارع وآخر، أجبرتني على العدولِ عن فكرتي هذه.
لكن الشغف لم يختفِ. وأثناء إقامتي في باريس، كنت أتردّد من حينٍ لآخر على حديقةِ النبات الشهيرة بجوار منزلي في الدائرة الخامسة، لأستمتعَ بقراءةِ اللافتات الصغيرة الحاملة للمعلوماتِ عن كلّ نبتةٍ وشجيرةٍ من نباتاتها.
لذا شدّتني جملة "الزراعة في الفضاء" لقراءةِ قصة الزراعة في الصين، وهي في الواقع حكاية غير عادية: قصة نهوض بلاد عانت من أخبثِ أنواع الحروب الاستعمارية، أقصد حرب الأفيون التي شُنّتْ عليها في فترةِ احتضار ثمّ انتهاء حكم السلالات الملكية هناك، والتي أدّتْ إلى ما تُسميه الأدبيات الصينية بمرارة: "قرن الإذلال".
لكن الصين استطاعت بفضل الزراعة، ونظرية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، التي استبدلت العمال كمحرّكٍ للثورة، بالمزارعين، أن تخرجَ من "قرن الإذلال" البريطاني (ما غيره)، والذي امتصَّ ثرواتها حتى النخاع، تمامًا كمصاصِ الدماء الروماني الشهير الكونت دراكولا.
وللصدفةِ السعيدة، اكتشفتُ مسلسلًا كانت تبثّه القناة الصينية بالعربية عن حياة المهندس الزراعي الأشهر في الصين يوان لونغ بينغ، والذي تُوفي منذ ثلاث سنوات ومرّت ذكرى وفاته أوّل من أمس. فالرجل الذي خُصّصت له حلقات من سلسلةٍ تحمل عنوان "وسام الجمهورية"، أمضى حياته، حرفياً، في البحثِ عن طريقةٍ لتهجين الأرز، في سعيه لزيادةِ المحاصيل، بما يكفي لإطعامِ مواطنيه الذين عاش وإياهم عقوداً من الجوعِ الخرافي.
ألا نحتاج إلى من يعلّمنا كيف نكون أسياداً في حقولنا بدلاً ممن حوّلنا إلى عبيدٍ في أسواقه؟
الملفتُ في السلسلةِ إلى دقتها العلمية، أنّها تُزوّد المُشاهد بعددٍ هائلٍ من المصطلحات المترجمة إلى اللغةِ العربيّة عن الأبحاثِ الزراعية. مصطلحات مبسّطة وجديدة في آن على الأذن، نظراً لجدّة التطرّق إلى هذا الشأن بلغتنا. واللافت، كما في مسلسلاتٍ صينيةٍ أخرى موضوعها العلم، جمعها ما بين دقّة الوثائقي وجمالِ الدراما، إن كان لجهةِ جودة التمثيل أو التصوير والإخراج.
وأنا أبحث عن قصصِ كفاحِ الصين ضدَّ الجوع، قرأتُ في مكانٍ ما أنّه في مطلعِ القرن الماضي كانت كلمة طعام تعني شيئاً من ثلاثة: الذرة أو البطاطا أو الأرز. كان هذا طعام الصينيين الفقراء قبل سبعين عاماً بالتمام والكمال. ويقول الروائي الصيني مو يان في أحد أعماله إنّه "من شدّة الجوع كان زملائي في المدرسة الابتدائية يتوقون حتى إلى أكل الفحم، أمّا أنا فكان أكبر أحلامي أن أحصل على قطعة من الخبز".
هذا هو الجوع الذي لم نكن نعرفه، وربما سمعنا عن حدوثه في منطقتنا خلال الحرب العالمية الأولى. جوعٌ نسيناه، ثم اكتشفناه أخيراً في غزّة، لكن بفعلِ فاعل.
أمّا اليوم، فحقولُ الصين تُطعم خمس البشرية. تصوّروا! رحلة الصين بين الواقعين لم تستغرقْ أكثر من سبعين عاماً.
ولأضف شيئاً أخيراً: منذ يومين قرأتُ خبراً يقول إنّ الصين توصلت بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة إلى اختراعِ دفيئةٍ آليّةٍ مع تحكّم ذكي تماماً في بيئة النمو، وبناء جيل جديد من المصانع الآلية غير المأهولة، حيث لا تتطلّب زراعة الخضروات ضوء الشمس أو التربة.
بالطبع لكلِّ نجاح جوانب سلبيّة تمكن مناقشتها، لكن، ألم يحن وقت الاستدارة شرقاً؟ إلى من يعلّمنا كيف نكونُ أسياداً في حقولنا بدلاً ممن حوّلنا إلى عبيدٍ في أسواقه؟