أسطورة محاربة الشر

05 نوفمبر 2023
+ الخط -

في أحد الأيام في حصة علم النفس الإكلينيكي، طرحت أستاذة علم النفس علينا سؤالا كالآتي: ما الذي يجعل أشخاصا يغادرون بلدانهم للمشاركة في النزاعات المسلحة؟ وكانت حينها ما زالت مسألة الهجرة إلى البلدان التي فيها نزاع مسلح تناقش، خاصة سورية العراق.

تعددت الإجابات، غير أنه لم يوجد واحد منها كان مقنعا للأستاذة، لتجيب عن السؤال بنفسها، قالت: "الذي يبعث الشباب على الذهاب إلى هناك هو البحث عن الهوية، وهذا هو المبرر الذي يجعلهم يُقدِمون على خطورة مثل تلك والتضحية بحيواتهم، وإلا فأي عاقل يترك بلدا مثل ألمانيا أو فرنسا ويذهب إلى هناك؟ حيث إن احتمال الموت يفوق بكثير احتمال الحياة، لكن هو ذاك الصراع النفسي الخطير الذي قد يجعل الإنسان يتخذ مثل هذا القرار".

غير أننا حينما انتهت الحصة، راودني سؤال آخر، وهو إذا كان هؤلاء يموتون بحثا عن الهوية، فهناك آخرون قد يموتون دفاعا عنها، أيهما يُقبل تصرّفه. صحيح أننا اليوم نقبل تصرّف الثاني، في حين ننبذ الأول، لكن لم لا نقبل حتى الأول أيضا. ألسنا في زمن نحترم الهويات والخصوصيات، بل وندافع عن تعددها؟

صحيح أن هذا واقع اصطلح الناس عليه، أو اعتادوا عليه، بينما لا يعني هذا أن ما يقوم به الناس اليوم هو الحق، وإلا فما تفسير كل هذه التناقضات التي نشهدها في العالم اليوم. في بعض الأحيان قد يصل الأمر بكيان أو دولة أو هيئة معينة حد الوقاحة، وكل ذلك تحت ذريعة الدفاع عن الهوية، في حين يصل الأمر حد الوقاحة أيضا في محاربة هوية أخرى، وما يحصل اليوم في فلسطين تجسيد لهذا الأمر، إبادة هوية جماعة مقابل الدفاع عن هوية أخرى، وكل هذا لا أحد يستطيع تبريره.

الشعب الفلسطيني ربما هو الشعب الوحيد الذي أصر العالم على حرمانه من حقه في الوجود، رغم تعدد وتحول الشرائع الكونية، وكلها تتجاهل الدفاع عن حقه في الوجود

أمام الفظائع التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ قرون، كل ذلك بغية الدفاع عن هويته وحقه في الوجود، مثله مثل باقي الشعوب والهويات الأخرى التي تعيش فوق هذه الأرض، وربما هو الشعب الوحيد الذي أصر العالم على حرمانه من حقه في الوجود، رغم تعدد وتحول الشرائع الكونية، وكلها تتجاهل الدفاع عن حقه في الوجود، بل كلها تبحث عن أتفه الأسباب حتى تتجاهله، أو حتى تجعله يملّ من الاستمرار تحت المعاناة، ويقرر الانسحاب مرغما، ومن ثم ينسى الدفاع عن نفسه وكيانه، وبالتالي ينسى هويته، غير أن ما يجري الآن أثبت عكس ذلك، حيث إن طول هذه السنين لم يزد هؤلاء إلا أن بصّروا العالم بحقيقة الأمر، وأن شعب فلسطين شعب أكثر من أن يُتجاوز تحت أي ذريعة كانت، لأنه شعب يدافع عن وجوده، وعن هويته التي أراد العالم حرمانه منها.

ما الذي يجعل هؤلاء الناس يصمدون، ويتشبثون بالأمل طول هذه المدة؟ مهما حاولنا تبرير ذلك تحت أي سبب كان، إلا أن الدين يبقى من أهم العناصر، التي جعلت هؤلاء الناس يتشبثون بأمل انتصارهم واستعادة حقهم، مهما تكالبت عليهم الأمم، وحلت بهم نوائب الدهر من كل جانب. هذا الأمر بغض النظر عن كون مجموعة من الدراسات الميدانية تثبته، إلا أن ما يحصل الآن خير شهيد على ذلك، رغم ما يقارب قرنا من الزمن وهؤلاء ما زالوا متشبثين بنفس القضية، بل ويؤمنون حق الإيمان بأنها في الأخير ستنتصر، مهما خذلهم العالم، كل هذا في اعتقادي أن الدين يلعب فيه دورا كبيرا.

من هنا يمكن الحديث عن أحد المغالطات الشهيرة، التي يروجها الإعلام الغربي، ومعه الإعلام الإسرائيلي أو المتواطئ معه، وهو أن هؤلاء يخوضون حرب وجود، حرب الدفاع عن النفس، ومن ثم فهم قد يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم. ولهذا رأينا كيف أن هؤلاء أعطيت لهم الإشارة الخضراء من الغرب من اليوم الأول، وبالتالي فهم لا يلامون مهما ارتكبوا من جرائم، فما دام الغرض هو الحرب من أجل تخليص العالم من الشر كما يروجون، فإنهم يجوز لهم أن يفعلوا كل شيء لتحقيق ذلك.

لكن ما الشر الحقيقي؟ كيف تحول شعب يدافع عن حقه وهويته، بل وهو الذي يقوم بالدفاع عن هويته، إلى شعب يمثل الشر يجب أن يحارب؟ ألم يكن الأولى أن تكون الحرب بالعكس؟ كيف انقلبت الموازين هكذا بسرعة؟

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".