أساطير التاريخ الطبيعي
يقول أحد الروائيين ينفجر التاريخ فتصيبنا شظاياه، وقد ينفجر فيروح ضحية انفجاره أمم أو شعوب، كم من مدينة من المدن الحديثة شيّدت على أنقاض مدينة أخرى، بل في الحقيقة هذه المدن الفخمة والراقية ومواقع الاستجمام التي نراها اليوم هي في الحقيقة جميعها مشيدة على جماجم، فقط قليلون هم أولئك الذين يستطيعون رؤية ذلك، ربما لا داعي لذكر أمثلة لهذا الأمر، حيث إن الواقع حافل بالأمثلة، كما أن ما يحدث الآن من إبادة لأناس أبرياء هو خير دليل على ذلك، لكن ماذا لو أتى بعد سنوات من يريد أن يعيد لهؤلاء المدفونين هناك حقوقهم.
ماذا لو اكتشفنا الآن على سبيل المثال، أن السكان الموجودين في أوروبا في الحقيقة يعود أصلهم إلى بلاد فارس، وأن الناس الموجودين في أميركا أصلهم يعود إلى شمال أو شرق أو غرب أوروبا، وأن تلك الأراضي التي يتمتعون بها، تعود أصولها إلى أناس هم الآن تحت القبور، لكن مهلاً ماذا لو وجدنا أن أسلاف السكان الأصليين للأميركيتين يشتركون مع أسلاف سكان روسيا، ألا يحق لهؤلاء أن يطالبوا بميراث أجدادهم الذين أبيدوا في الأميركيتين، وأكمل السيناريو من عندك أنت، قد يبدو لك أن هذا الأمر هو ضرب من الجنون أليس كذلك؟ لكن في الحقيقة لا، إنه ليس كذلك، بل هذا الذي يبدو أسطورة هنا هو الأقرب إلى الواقع مما يشاع على الميديا.
يقول أحد المؤرخين إن التفسيرات المعاصرة للتاريخ، تخبرنا عن أحوال الباحثين أكثر مما تخبرنا عن أحوال المبحوثين، يبدو لي أن هذا الرأي صائب إلى حد ما، وخاصة فيما يخص الباحثين الذين ينتمون إلى التاريخ الطبيعي، حيث إن بعض الباحثين فيه، بدافع محاربتهم الخرافات والأساطير الموجودة عند الشعوب القديمة، يسقطون في أساطير أشد غرابة من تلك الأساطير التي نسجها أولئك، كأن نبحث مثلاً عن قطعة حجر أو خشب، ونعتقد أن من خلالها نستطيع تحديد نمط وظروف عيش أصحابها، بل والأغرب أن نتوصل إلى معرفة نوع الأنظمة السياسية، وأنواع المعارف التي كانت موجودة عندهم، ومكانة المرأة، وشكل العلاقة بين الجنسين، والجنسانية، وغيرها من القضايا التي تشغل بال الإنسان الغربي اليوم.
يقول أحد المؤرخين إن التفسيرات المعاصرة للتاريخ، تخبرنا عن أحوال الباحثين أكثر مما تخبرنا عن أحوال المبحوثين
لكن ما الذي يمنع من صدق هذه التنبؤات، أنا أرى العكس، وهو ما الذي يدفع إلى تصديق هذه الخرافات أصلاً، وخاصة إذا كنا نعلم أن التاريخ يزوّر أمام أعيننا، إذا كنا نرى كيف أن الواقع يوارى ويُصنع واقع مواز يوافق هوى القوى التي تتحكم في المشهد السياسي، إذا كنا نعلم طبيعة اشتغال العلوم، وكيف تدار وتمول لخدمة أجندة معينة، كيف نستطيع تصديق تنبؤات هؤلاء عن تاريخ غابر في القدم، فقط لخدمة أغراض أيديولوجية أكثر من أن تكون علمية.
يقول المؤرخون إن التاريخ بدأ منذ اختراع الكتابة، ويقول الباحثون في التاريخ الطبيعي أيضاً، إن الإنسان امتاز عن غيره من الكائنات، حينما استطاع تطوير اللغة، فقد أصبح من حينها كائناً ثقافياً، ومن ثم استطاع بناء الحضارة، وعن طريق الحضارة استطاع أن يخلد ذكره، وعن طريق عبقرية الإنسان المعاصر، الذي استطاع أن يطور العلوم، ويطور التكنولوجيا، استطاع الإنسان أن يفهم حيوات أسلافه أكثر، سردية مغرية وجميلة، لكن يمكن نقضها بمسألة بسيطة، كيف يفهم هذا الإنسان تاريخ أولئك الأسلاف الغابرين في التاريخ، ومسألة فهم طبيعة البشر المعاصر، الذي يخضع للتجارب كل يوم ما زالت محل نقاش، أليس هذا فقط من غرور الإنسان المعاصر؟
لنعد لمسألة التاريخ، ورغم الاختلاف حول طبيعة التاريخ الطبيعي، فإن الكثير من الدول تسعى لفرض هيمنتها بناء على فرضيات هذا التاريخ، بل وتبحث عن مشروعيتها، بناء على هذا التاريخ أيضاً، وخاصة الدول الاستعمارية التي ما زالت تنهب ثروات بلدان أخرى، مما يعني أن هذا التاريخ يخدم مسألة أيديولوجية بالدرجة الأولى، أو هو مجرد أسطورة من الأساطير التي حاكها الإنسان حول نفسه، لتحميه من الخوف الذي يراوده من انعدام المعنى الذي يواجهه في هذه الحياة لا غير، وليبرر أفعال الشر التي يقوم بها، لا أقل ولا أكثر.