الأردن.. العودة إلى التعليم

21 يوليو 2019
+ الخط -
تاريخياً، شكّل التعليم العنصر الأهم في أسباب نهضة الأردن، وتطوره. وقد سعى الأردنيون والحكم الهاشمي إلى التغلب على تحدي شُحّ الموارد ومغالبة حرائق المنطقة ونتائجها، عبر التعليم والاستمرار بعمليات النهوض به وتطويره، وأحياناً إجراء جراحات عميقة لتصويب ما يحتاج إصلاحاً. وقد اختارت الحكومة، برئاسة عمر الرزاز، على ما يبدو العمل بأسلوب البتر، للأعضاء التي لا تعمل أو أصابها العطب في ملف التعليم، وهذا لا يعني أنها لا تُواجه بانتقاداتٍ أو جملة معارضات وعقليات تأبى التغيير، غير أن الرزاز يسعى إلى عقلنة مطالب المجتمع بالذي يطلب أحياناً المستحيل فيخسر الممكن، والممكن عوضاً عن طلب المستحيل هدف قابل للتحقيق كما يرى رئيس الحكومة. ويكمن بالإصلاح في ملفات الخدمات الأساسية التي تمُسَ حياة المواطن: التعليم والصحة والنقل وتنشيط الاستثمار. أما المستحيل الذي هو صعب التحقق فيبدو في حل معضلة الفقر والبطالة، وإنجاز ديمقراطية كاملة تتحقق فيها حياة حزبية فاعلة وحكومة أغلبية.
التقى رئيس الوزراء عمر الرزاز، أخيراً، كتاباً وإعلاميين، وتحدّث بإصرار على إصلاح ملف التعليم. وتقول مصادر مُطّلعة إن حكومته ستعلن قريباً عن جُملة إجراءات فيه، منها إقرار مبدأ إلزامية التعليم في سن الخمس سنوات، بمعنى البدء بتدريس رياض الأطفال في مدارس الحكومة، ما سيفتح العام الدراسي المقبل نحو مائة وخمسين صفاً، والعام الذي يليه سيكون في كل مدرسة حكومية صف رياض أطفال، أي أنّ ذلك سيشغل أكثر من ألف خريجة جامعية في تخصص رياض الأطفال ممن هُنّ على مقاعد البطالة. ويأتي هذا الإجراء بعد الشروع بإحالة نحو عشرة آلاف موظف في القطاع العام إلى التقاعد، وبالتالي ترشيقه وإدخال قوى جديدة إلى سوق العمل، وغالبيتها من الإناث اللواتي تتركّز فيهن البطالة في محافظات الأطراف. وستعلن الحكومة عن إجراءات جديدة تجاه تقييم عمل المناهج، وخصوصاً في مسار الإنسانيات، حيث تحدث الرزاز عن تقدم في مناهج العلوم والرياضيات، وأن حكومته تنتظر نتائج الاختبارات الدولية في هذا الصدد. ومن المتوقع أن يُعلن قريباً عن دمج وزارتي التربية والتعليم العالي دمجاً كاملاً.
ومن ملف "التعليم"، تُعدّ الحكومة العُدّة للدفاع عن تعديل قانون التعليم العالي أمام مجلس 
النواب، حيث سيطاول مشروع القانون، في موادّ منه، صلاحيات مجالس أمناء الجامعات، وإنهاء عضوية أعضائها، وما يتصل بتعيين رؤساء الجامعات، أي أن الحكومة تُعيد ولايتها على أمر الجامعات، بعدما تكرّرت أخطاء بعض مجالس الأمناء، والتي طلب منها أخيراً البدء بتقييم عمل رؤساء الجامعات. ولكنّ التغيير ليس سهلاً، فالرزاز ومعه وزير التعليم العالي وليد المعاني سيواجهان شبكة من العلاقات المعارضة لما هم في صدده، وفي مقدمتها قوى البازار المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصالحها، والراغبة بتطبيق معايير الجودة والاعتماد على الجامعات الحكومية بمثل ما تُطبق على الجامعات الخاصة التي تربح أكثر وتشغل موظفين أقل، ولكن هذا لا ينفي إسهامها في الاقتصاد والتنمية.
الأردن بلد يدير التعليم العام بطريقة شبة اشتراكية، فللدولة ولاية عامة على التعليم الحكومي، والرسوم في المدارس الحكومية شبه مجانية، ونفقات التعليم في الجامعات الحكومية لا تغطي الكلفة، وهناك مسؤولياتٌ تنموية على الجامعات التي أُرهقت بالتوظيف، وتعاني من تدخلاتٍ في عملها وضغوط على إدارتها.
في المقابل، وعلى الرغم من هذا الواقع المعقد، ثمّة جامعات، مثل الجامعة الأردنية، حصلت أخيراً على ترتيب ضمن أفضل مائتي جامعة عالمية في تخصصي طب الأسنان والتمريض، متصدرة كل الجامعات العربية وبعض الأوروبية، والشرق آسيوية، ومرد ذلك عوامل عديدة تراكمية وبحثية ونوعية في التدريس، وسعي حثيث إلى التحول إلى جامعة ذكية في عهد إدارتها الحالية. وللأسف، لم يلق هذا الإنجاز أيّ تكريم، وضاع في ظل الحديث عن أزمة عابرة جرّاء قرار قطري كويتي بإعادة تحديد الجامعات المعتمدة في الأردن بالنسبة للابتعاث.
يخرج الأردن دوماً من أزماته أكثر صلابة وقدرة، ولديه اقتصاد يتحسّن في نسب التصدير الكمي وليس السعري، كما قال الرزاز في اللقاء المشار إليه. ولدى الأردن اليوم أكثر من سبعة آلاف مدرسة، ونحو أربعين جامعة، عشر منها حكومية، وثلاثون جامعة وكلية جامعية متوسطة خاصة. ويسهم القطاع الخاص في التعليم العام والعالي، وله جهود كبيرة. ولكن ما الذي حدث 
في الراهن الأردني في ملف التعليم؟ لحسن الحظ، أنّ الرزاز وزير تربية وتعليم أسبق، يعي ويُدرك استعصاء الإصلاح في وزارة التربية والتعليم، وهي المؤسسة الأكثر محافظةً في الأردن، لأسباب كثيرة، منها هيمنة قيادات الإخوان المسلمين عليها مدّة طويلة، فانعكس ذلك على بُنية المناهج. كما أن الرزاز رئيس مجلس أمناء أسبق لجامعة العلوم والتكنولوجيا المتميزة في قطاعي الطب والعلوم، وهو يعرف أخطاء رؤساء الجامعات واندفاعهم وفساد بعضهم، ويدرك جيداً أنّ بعض مجالس الأمناء لا تُقيم الأداء للقيادات الأكاديمية التي تأتيها قرارات تعيينها أو التمديد لها أحياناً جرّاء المحاصصة، وهي لا تُسائل الرؤساء، وهناك ملفاتٌ بصيغة تحدياتٍ كبيرة، تواجه رؤساء الجامعات، وأبرزها التمويل المالي.
ولا يعني ذلك كله إنكار الإنجازات الطبية والبحوث العلمية والسمعة العالمية، ولكن حسبة الرزاز واضحة، تكمن في إعادة ترتيب أوراق التعليم بشكل عام، وفي مقدمتها الجامعات، من دون المسّ بالسمعة والتقاليد الأكاديمية، فهو باحث أيضاً، ويدرك أهمية المعرفة باعتبارها قوة للدولة، ويستشعر ضرورة ترويض الاندفاع الأردني إلى التعليم الجامعي، والحاجة إلى التعليم التقني الذي بحث سبل تطويره أخيراً مع الصينيين، وتتجه حكومته إلى إنشاء جامعة صينية أردنية جديدة للتخصصات التقنية والتكنولوجية. ولا تغيب عنه ضرورة الفصل بين المصالح عبر المجيء برؤساء مجالس أمناء يسعون بجدية إلى جلب التمويل للجامعات، وتحسين الأداء في عمل الجامعات.
عبر عقود طويلة، يتضح أنّ هدف إصلاح التعليم ظلّ الملف الأكثر تأثيراً في حياة الأردنيين، وهو أولوية تسبق ملفي الصحة والنقل، لأنها متصلة بالمستقبل، وفي إعادة إحياء مقولة "الاستثمار بالموارد البشرية"، والتي هي رأس مال الأردن، وسبب نهضته في بعض الملفات. وهنا يتحول عمر الرزاز من مقولته بـ"مشروع النهضة" إلى مبدأ "خطوة تنظيم" العسكري في أحد أهم روافع التقدّم الأردني، وهو التعليم.
دلالات
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.