يقلّم أظافر وحدته

28 يونيو 2016
فادي يازجي / سورية
+ الخط -

يحاول لملمة أجزاء روحه المبعثرة بين المنافي، عبر صور تنبش كل واحدة منها حكاية تتداخل مع حكاية أخرى، وصورة أخرى في منفى آخر. لمسات أصابعه المتعبة على شاشة موبايله وهو يقلّب ألبوم حياته المصوّر، بإيحاءات كاذبة يحاول الانفصام عن نفسه ليستطيع الكلام بصوت عال.

يحدّث الخيالات التي رسمتها إضاءة الشوارع على الجدران ليبوح بكل شيء. لا مكان لتلك الأسرار الغبية التي يخفيها داخله. ما من أسرار أمام خيالات الروح وانفصام الذات! جميع من في هذه الغرفة المنزوية يعرف كل أسراره، ما الجدوى من سردها على العلن؟ يتكئ على طاولته؛ كريستال شاشة اللابتوب يوحي له بأشياء كثيرة لا بد من البوح بها.

تتراقص أصابعه المتواطئة مع روحه فوق لوحة المفاتيح (أحاول أن أفكر بذاك الانتماء المرّ الذي حولني إلى دجاجة تطأها كل الديوك؛ لأبيّضَ كلمات عقيمة لم تفقس عن أي صوص قد يكبر في يوم ما ويتحول إلى ديك. كل البيض تحول إلى مقليّ يقدّم على مائدة الظرفاء، أصحاب النظريات الموضوعية).

يضحك.. ويحذف منشوره من حسابه على فيسبوك ليلصق صورة فنجان قهوة ويكتب صباح الخير يا أصدقاء!

ينزل الدرجات إلى مطعم الكامب الذي وصله منذ أيام قليلة، بعد رحلة شاقة استنفد فيها كل مدخراته من مال، وانتماء، وإنسانية. يقف في الطابور اليومي ينتظر دوره. يحاول استراق السمع: ضجيج وتداخل كلمات ولغات تجعله في دوامة غريبة لم يعتد عليها بعد. في محاولة جادة منه لتحسين أدواته في استخدام تقنية التجسس، يستطيع أن يلتقط بضع كلمات عربية تتحدث عن الإقامة والمعونة. آخرون يتحدثون عن دجل مدير الكامب وكيف سيضربون عن الطعام لتحسين ظروف الحياة.

تفاجئه بيضة مسلوقة وضعها بين يديه الطبّاخ. يحملها برفق. ربما هي إحدى كلماته العقيمة التي قد تكون هربت من إحدى النظريات، عن ذلك الانتماء القسري الذي كان يتفاخر به علناً بـ نوستالجيا لا معنى لها سوى الهروب مما بداخله من حقد على ذلك المكان.

يخرج وحيداً ليجلس على شاطئ البحيرة التي يطل عليها الكامب. الطيور حوله تحوم بطريقة كرنفالية بحثاً عن قطعة خبز يرميها أحدهم لها لتعلو أصوات الشجار بين الطيور من أجل قطعة خبز. عاد به هذا المشهد إلى آلام تجعله يبلع لعابه لخنق نشيج بدأ يتسلل إلى قلبه، محاولًا حبس دموع نفرت لتوها من بين جفنيه. يمسحها بأصابعه (ربما هي الريح جعلت الدموع تخرج لتصدّ طغيانها). كم تمنى أن يكون مدخناً في هذه اللحظات التي تحتاج إلى حرق كل شيء. طوال حياته وهو يقاوم السيجارة. ربما هي المرة الوحيدة التي استطاع أن يتنصر على شيء كان يتمناه هو. لطالما حاول أصدقاؤه المدخنون جلبه إلى هذه الحلبة، لكنه قاوم كثيراً، ونجح.

من المحتمل أنه كان لا يريد هذه المقاومة، ولكن ماذا لو أدمن التبغ وفي يوم لم يستطع شراءه؟ (ماذا لو أنني خسرت تلك المعركة مع الدخّان؟ من المؤكد أنني كنت سأرتاح أكثر).

في غرفة التدخين، جلس بين رفاق الكامب محاولاً الدخول في شعور المدخن ومعرفة ما تعنيه له السيجارة. في تلك الغرفة الضبابية كان أحدهم يتحدث عن الكآبة التي يعيشها بعد عدة شهور من وصوله إلى هذا المكان، يحاول الحصول على إثبات لحسن السلوك، وتعزيز انتمائه لرفاق الغرفة الضبابية، قائلاً أنّه لو كان يعلم أن الحياة بكل هذا القرف لما خاطر بنفسه في رحلة البحر. بيتسم ويهز برأسه بتأييد كاذب للمتحدث.

تعود به الذاكرة إلى عشرين عاماً خلت، عندما حدّث صديقه عن نيته إرسال رسالة كان قد كتبها إلى مكتب الأمم المتحدة في بيروت، لأنه يخشى من الاعتقال إن قدّمها إلى مكتب دمشق (أطالب فيها بالحماية وتأمين خروج آمن لي من دولة أمنية احترفت القتل والتعذيب في أقبية نازية. سأطالب الجهات الدولية برفع البسطار العسكري عن رقاب الناس) ضحك من هذه الذكرى لأنه أعدم الرسالة حرقاً بعد أن أقنعه صديقه: وهل تظن أن مكتب الأمم المتحدة في بيروت بعيد عن القبضة المخابراتية؟ بيروت محتلة من هؤلاء الأوباش. خرج من الغرفة الضبابية منتشياً بهذا الدخان السلبي الذي استطاع أن يقترفه طالما أنه لا يستطيع أن يكون إيجابياً حتى في الدخان.

على جداره الأزرق كتب: منذ تلك الحادثة، انتقلت من الشك في البقاء إلى اليقين في عدم الانتماء إلى مزرعة الدجاج تلك. رغم كل محاولاتي للخروج من هذا "القنّ" إلا أنني فشلت. واعتدت على نقر حبات العلف اليومي التي يجود بها علينا صاحب المزرعة، وهو يجول بنظره بين قطيع الدجاج ليعاقب أي دجاجة تحاول النظر إلى غير علفها اليومي. هل تتحول الدجاجة إلى نسر؟ ربما تتعلم الطيران إن خرجت من هذه المزرعة القذرة!

ضحك.. ضحك كثيراً. صوت قهقهته ملأ المكان بالضجيج؛ ضحكات جعلت الدموع تنفر من عينيه فرحاً أو ربما حزناً. لكنه ضحك أخيراً. حذف منشوره وشارك أغنية فيروز الشهيرة "ردني إلى بلادي" واصفاً حالته "يشعر بالحنين إلى الوطن" .. أغلق شاشة اللابتوب، استلقى على سريره والابتسامة على وجهه: ما أجمل الكذب على الفيسبوك..

(سورية)

المساهمون