لا يُطيق الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولا يروق له، الانتساب إلى المنظمات والاتفاقيات والأحلاف الدولية. خرج من معظمها مبكراً، وبذرائع واهية. أما ما تبقى منها، فيتمنى لو كان بإمكانه مغادرتها اليوم قبل الغد، مثل "حلف شمال الأطلسي" والأمم المتحدة. لكن المصالح والحسابات الاستراتيجية الأميركية تمنعه من الذهاب إلى هذا الحد. على الأقل حتى الآن.
قبل يومين، أعلنت إدارة ترامب انسحابها من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وليس صدفةً أن تأتي خطوتها غير المفاجئة، بالتزامن مع تجاهلها لاثنين من أبسط حقوق الإنسان: حقوق الأطفال الذين فصلتهم عن ذويهم الذين حاولوا التسلل عبر الحدود مع المكسيك لطلب اللجوء (قبل أن يضطر ترامب بعد ظهر أمس للتراجع عن هذه الفضيحة تحت الضغوط المحلية الهائلة)، ووقوفها في مجلس الأمن مؤخراً ضد حقّ الشعب الفلسطيني بالحماية من انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي. وكلاهما من بديهيات هذه الحقوق التي لا تحتمل الجدل، ولا يجوز التغاضي عن انتهاكها.
مع ذلك، ضربت الإدارة بهذين الحقّين عرض الحائط، وتفرغت لتصفية الحساب مع مجلس حقوق الإنسان ومغادرته "احتجاجاً على انحيازه غير العادل ضد إسرائيل".
في أسبابه المباشرة، جاء هذا الإجراء كردّ على إدانة المجلس لعملية فصل الأطفال، كما على تصويت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قبل أيام على قرارٍ لحماية الشعب الفلسطيني، فالإدارة لا تخفي استياءها ونفورها من المنظمة الدولية ومؤسساتها، أكثر من أي إدارة سابقة.
السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هايلي سبق لها أن لوّحت بمثل هذا القرار ومهدت له تحت ذريعة أن "إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي يناقش المجلس انتهاكاتها لحقوق الإنسان بصورة دورية شهرية". فالعلّة، بحسب السفيرة، تكمن في كثرة مساءلة إسرائيل، وليس في كثرة انتهاكات دولة الاحتلال التي اعتادت واشنطن على ادراجها في خانة "الدفاع عن النفس"، خاصة في ظلّ هذه الإدارة، وبالتحديد أثناء مجزرة غزة الأخيرة التي بادر السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان، ومن غير مراجعة وزارة الخارجية، إلى توبيخ الإعلام الأميركي لـ"قصوره" و"عدم تقديم تلك الأحداث تحت عنوان دفاع اسرائيل عن نفسها".
وما كان معروفاً عن فريدمان بأنه يتفرد ويقرر ويتصرف كوزيرٍ مفوض، أكدته مجلة "ذا أتلنتيك" في تحقيق مفصّل وموثق، كشفت فيه أن الأخير "لا يرجع إلى وزارة الخارجية" في مواقفه وتصريحاته، بل يتخذها في ضوء ما تقتضيه "أولويات الاستيطان" الإسرائيلي. وليس هناك في الإدارة من يصحح له، أو يتبرأ من مواقفه.
وبحسب المجلة الأميركية، فإن فريدمان ليس وحده في هذه المهمة، إذ يكمّله في واشنطن زميله رون ديرمر، السفير الإسرائيلي في واشنطن، الذي يتولى برمجة توجهات وسياسات الإدارة تجاه القضية الفلسطينية. فهو صار "دماغ جارد كوشنر" الذي يتجول الآن في المنطقة مع فريقه الخاص، لتسويق "صفقة القرن" التي لا يمكن أن تكون أقل من محاولة تصفية للحقوق الوطنية الفلسطينية، طالما أن عقل ديرمر الذي "يعكس دماغ نتنياهو"، يقف وراءها. محاولة عكسها التصدي الأخير لمشروع حماية الفلسطينيين ثم استثناء الطرف الفلسطيني من جولة كوشنر، كما عكسها أمس قرار الانسحاب من مجلس حقوق الانسان.
الإدارة التي سبق أن انسحبت أواخر العام الماضي من منظمة "اليونسكو" التابعة للأمم المتحدة، لم يبق أمامها سوى اعلان انسحابها من المنظمة الدولية التي تتهمها بالتحامل على إسرائيل. والمعروف أنه سبق وجرى التلويح بمثل هذا الخيار في السابق، وعلى لسان مستشار ترامب، جون بولتون بالذات، الذي ينظر هو وأمثاله من المحافظين باحتقار إلى الأمم المتحدة، لأنها لم تعد أداة مطواعة وساكتة عن انتهاكات إسرائيل. لكن الحاجة للمنظمة وامتلاك واشنطن لحق الفيتو الذي استخدمته 45 مرة لحماية إسرائيل من أصل 97 مرة في تاريخ مجلس الأمن، يحول دون المضي في مثل هذا التوجه.
ولكن من يعرف كيف تجري وجهة الرياح في زمن الانقلابات الأميركية على كل ما هو دولي.