16 نوفمبر 2024
وظيفة سياسية مستحدثة لإحياء ذكرى الهولوكست
في احتكارها الكارثة والألم الإنساني، ترفع الصهيونية ودولتها واقعة الهولوكست إلى مرتبة صناعة سياسية ودرع سايكولوجي وهجوم إعلامي استباقي ضد أطراف عدة، منها الألمان الذين يدفعون تعويضاتٍ عن نظامٍ نازيٍّ لم يعد قائما، ولا صلة له بالنظام الجديد، ولدولةٍ لم تكن قائمة إبّان وقوع الكارثة. وضد بقية الأوروبيين، مثل البولنديين الذين ضمّت بلادهم معسكراتٍ للنازية (تم حرمان الرئيس البولندي، أندريه دودا، من إلقاء خطابٍ بالمناسبة، فآثر التغيب). وضد الفرنسيين الذين انشغلوا طويلا بسلام الشرق الأوسط، غير أن المستهدف الأول هو الضمير والحق الإنسانيان، حيث تنبض المساواة بين كل الضحايا أيا كانوا، وضد الجلادين بصرف النظر عن هوياتهم. وهو ما تُنكره الصهيونية، فالحق بالألم والاعتذار عنه وتصحيحه منكر على غير اليهود.
الاحتفال الذي حصل الخميس الماضي، وشارك فيه زعماء دول، في ما يعرف باسم اليوم العالمي لذكرى الهولوكوست، لم يهدف إلى التبصير بكوارث الماضي (يتعيّن أن تبقى حية في الأذهان)، بل رمى إلى التعامي عن الكوارث اللاحقة بتلك الكارثة، والتي كان لأبناء ضحايا المحرقة النازية وأحفادها يدٌ طولى فيها. هذا علاوة على كوارث أخرى في عالمنا. وبهذا، فقد انطوت إقامة هذه المناسبة على دعوة إلى التناسي والتعامي، بأكثر مما اشتملت على دعوة إلى استحضار ذكرى مريرة.
ويحتاج اليمين الإسرائيلي الأشد تطرّفا لإحياء هذه المناسبة التي تسعف في التستر على جرائم
الحاضر: العنصرية المكشوفة ضد الفلسطينيين. السرقة الشرهة لأرضهم. منع الاهتمام الدولي بالعدالة في الأراضي المقدسة. التنكيل الجماعي. هدم البيوت. سرقة المياه. استباحة الأماكن الدينية للمسلمين والمسيحيين. منع عودة النازحين منذ العام 1967 علاوةً على لاجئي العام 1948. إطفاء قضية السلام. هستيريا استعراض القوة وممارستها ضد شعبٍ أعزل. دعوة العالم إلى التواطؤ معهم. واستعراض مزايا التواطؤ وفوائده: تعاون على جميع المستويات. المساهمة بحل المشكلات الأمنية المستعصية، وتلبية المطامح الأمنية. التفرّغ لإيران. وتركيا عند اللزوم. وقد بدأ العالم (العربي وسواه) يستجيب نصف استجابة. تطبيع واتصالات وزيارات، والإشاحة عن قضية السلام وقرارات الأمم المتحدة، والالتزامات الدولية المتعاقبة، وكل ما يتصل بذلك من ثقافة سياسية وقانونية "قديمة".
تبدّت نصف الاستجابة في سلوك الرئيسي الفرنسي، إيمانويل ماكرون. تناول طعام الإفطار مع نتنياهو، وعقد مؤتمرا صحافيا مع رئيس الدولة العبرية، رؤوفين ريفلين، أعلن فيه أن إنكار وجود إسرائيل بات من أشكال معاداة السامية، بما يتناسب مع قوانين فرنسية جديدة، تضاهي بين انتقاد إسرائيل (والصهيونية) ومعاداة السامية. وبهذا تصبح دولة عضوا في الأمم المتحدة تتمتع بمزايا تفضيلية عن بقية دول العالم. على الرغم من أن ماكرون حاول أن ينفي ذلك، محتفظا بحق النقد، لكنه قطع نصف الطريق إلى تأثيم النقد بحق دولة الاحتلال. وقد كوفئ على ذلك بإساءة معاملته لدى استعداده لدخول كنيسة القديسة آن في القدس الشرقية المحتلة. جرى تبطيء حركته وسد الطريق أمامه برجال الأمن الإسرائيليين. ولم يكن ينقص هؤلاء سوى أن يطلبوا من رأس الدولة الفرنسية بطاقة هويته. وهو ما جعله يخرج عن طوره، ويحتدّ في وجوههم، مذكّرا إياهم بـ"القواعد" لدى استقبال رؤساء الدول، ولدى دخول مكانٍ ديني. تماما كما حدث مع سلفه، جاك شيراك، في المدينة المقدّسة المحتلة قبل 24 عاما، فالمقصود في الحالتين هي فرنسا التي تحتفظ بموقفها من حقوقٍ واجبة الاحترام لطرفين، لا لطرف واحد، وهو ما يثير حفيظة من يزعمون أنهم ورثة ضحايا المحرقة النازية. إذ يتعين محو حقوق الفلسطينيين في أرضهم، من الوعي والذاكرة. يجب نسيان الفلسطيني كي تُنسى الفظائع التي ارتكبها الصهاينة بحقه، والتي تجد تصاعدا لها مع حكومة نتنياهو الماضية في سياسة الاستئصال المعنوي والوجودي والهوياتي للفلسطينيين، وسحب الأرض من تحت أقدامهم.
وللحق، ليست هناك من إساءة لضحايا الهولوكست النازي أسوأ من الإساءة الصهيونية لها، وذلك
بكفاحها من أجل إغلاق الطرق أمام العدالة. وبالتمييز المشين الذي تقيمه بين الضحايا، وبمنح أبناء الضحايا وأحفادهم الحق في ارتكاب هولوكست مشابه ضد طرف بريء. وبتسويغ العنصرية وممارستها على نطاق منهجي وواسع. وهي منطلقاتٌ وتوجهاتٌ تنتسب للنازية نفسها، ويجري التمويه عليها بوشاحٍ شفيفٍ من الديمقراطية والحداثة اللفظية، علما أن أدولف هتلر نفسه كان يقيم ديمقراطيةً على هواه، وقد صعد بالانتخابات إلى سدّة الحكم، كما هو حال نتنياهو الذي يزدري السلام، ويبشّر بالحرب المستمرّة ضد إيران وحركة حماس، بينما يشن حربا باردة ضد السلطة الفلسطينية، الطرف الأكثر اعتدالا، وسوف يجد على الدوام أعداء له، يهدّد بشن الحرب عليهم، فالتعتيم على قضية السلام يتطلب منع هذا النشاط الحربي المحموم.
وفي إشاراته التي تنبئ بنصف استجابةٍ لطموح نتنياهو إطفاء الاهتمام الدولي بقضية السلام، ذكر ماكرون أنه لا يحمل مشروعا للسلام في زيارته هذه، وقال إن عملية السلام من أي نوع ممكنة إذا كانت الأطراف مهتمةً في بناء السلام، وبعد ذلك ستكون فرنسا مستعدة للمساعدة. وإذ تحمل هذه الإشارة نقدا ضمنيا خفيفا للضيف الذي لا يعير مسألة السلام أهمية تُذكر، فإنها تشي، في الوقت نفسه، بانسحابٍ فرنسي، أو بسلبيةٍ مستجدّة، وذلك خلافا لنهج فرنسي راسخ، بمنح هذه المسألة اهتماما مركزيا، بصرف النظر عمّن يصعد إلى قصر الإليزيه. وبالتعاكس مع وعودٍ أطلقها ماكرون، بعيد انتخابه عام 2017، بزيادة الاهتمام بهذه المسألة المحورية، وبما يُسدل الستار على مبادرةٍ فرنسيةٍ تعود إلى نحو عامين، لعقد مؤتمر دولي، للنظر في مستجدّات الصراع الشرق أوسطي. وفي ذلك، تمت الاستجابة جزئياً لمطامح نتنياهو، بإقصاء المسألة عن دائرة الاهتمام الدولي. ولا يملك ماكرون بالطبع ما تفعله بلادُه منفردة، وبمعزلٍ عن الدول الكبرى التي أدارت الظهر لهذه القضية وسواها من قضايا تتعلق بحقوق الشعوب والجماعات المستضعفة، وانغمست في طموحاتها القومية وصراعها المكشوف على النفوذ خارج حدودها، وبغير فروقٍ تُذكر بين هذه الدولة وتلك.
ويحتاج اليمين الإسرائيلي الأشد تطرّفا لإحياء هذه المناسبة التي تسعف في التستر على جرائم
تبدّت نصف الاستجابة في سلوك الرئيسي الفرنسي، إيمانويل ماكرون. تناول طعام الإفطار مع نتنياهو، وعقد مؤتمرا صحافيا مع رئيس الدولة العبرية، رؤوفين ريفلين، أعلن فيه أن إنكار وجود إسرائيل بات من أشكال معاداة السامية، بما يتناسب مع قوانين فرنسية جديدة، تضاهي بين انتقاد إسرائيل (والصهيونية) ومعاداة السامية. وبهذا تصبح دولة عضوا في الأمم المتحدة تتمتع بمزايا تفضيلية عن بقية دول العالم. على الرغم من أن ماكرون حاول أن ينفي ذلك، محتفظا بحق النقد، لكنه قطع نصف الطريق إلى تأثيم النقد بحق دولة الاحتلال. وقد كوفئ على ذلك بإساءة معاملته لدى استعداده لدخول كنيسة القديسة آن في القدس الشرقية المحتلة. جرى تبطيء حركته وسد الطريق أمامه برجال الأمن الإسرائيليين. ولم يكن ينقص هؤلاء سوى أن يطلبوا من رأس الدولة الفرنسية بطاقة هويته. وهو ما جعله يخرج عن طوره، ويحتدّ في وجوههم، مذكّرا إياهم بـ"القواعد" لدى استقبال رؤساء الدول، ولدى دخول مكانٍ ديني. تماما كما حدث مع سلفه، جاك شيراك، في المدينة المقدّسة المحتلة قبل 24 عاما، فالمقصود في الحالتين هي فرنسا التي تحتفظ بموقفها من حقوقٍ واجبة الاحترام لطرفين، لا لطرف واحد، وهو ما يثير حفيظة من يزعمون أنهم ورثة ضحايا المحرقة النازية. إذ يتعين محو حقوق الفلسطينيين في أرضهم، من الوعي والذاكرة. يجب نسيان الفلسطيني كي تُنسى الفظائع التي ارتكبها الصهاينة بحقه، والتي تجد تصاعدا لها مع حكومة نتنياهو الماضية في سياسة الاستئصال المعنوي والوجودي والهوياتي للفلسطينيين، وسحب الأرض من تحت أقدامهم.
وللحق، ليست هناك من إساءة لضحايا الهولوكست النازي أسوأ من الإساءة الصهيونية لها، وذلك
وفي إشاراته التي تنبئ بنصف استجابةٍ لطموح نتنياهو إطفاء الاهتمام الدولي بقضية السلام، ذكر ماكرون أنه لا يحمل مشروعا للسلام في زيارته هذه، وقال إن عملية السلام من أي نوع ممكنة إذا كانت الأطراف مهتمةً في بناء السلام، وبعد ذلك ستكون فرنسا مستعدة للمساعدة. وإذ تحمل هذه الإشارة نقدا ضمنيا خفيفا للضيف الذي لا يعير مسألة السلام أهمية تُذكر، فإنها تشي، في الوقت نفسه، بانسحابٍ فرنسي، أو بسلبيةٍ مستجدّة، وذلك خلافا لنهج فرنسي راسخ، بمنح هذه المسألة اهتماما مركزيا، بصرف النظر عمّن يصعد إلى قصر الإليزيه. وبالتعاكس مع وعودٍ أطلقها ماكرون، بعيد انتخابه عام 2017، بزيادة الاهتمام بهذه المسألة المحورية، وبما يُسدل الستار على مبادرةٍ فرنسيةٍ تعود إلى نحو عامين، لعقد مؤتمر دولي، للنظر في مستجدّات الصراع الشرق أوسطي. وفي ذلك، تمت الاستجابة جزئياً لمطامح نتنياهو، بإقصاء المسألة عن دائرة الاهتمام الدولي. ولا يملك ماكرون بالطبع ما تفعله بلادُه منفردة، وبمعزلٍ عن الدول الكبرى التي أدارت الظهر لهذه القضية وسواها من قضايا تتعلق بحقوق الشعوب والجماعات المستضعفة، وانغمست في طموحاتها القومية وصراعها المكشوف على النفوذ خارج حدودها، وبغير فروقٍ تُذكر بين هذه الدولة وتلك.