ورقة التفاوض الأخيرة
هل نضبت الحلول لمشكلة اليمن المعقدة؟ بالطبع لم تنضب، والحلول موجودة دائماً، بيد أن هناك من لا يريدها، إلا إذا كانت على هواه، وهواه لا يستهوي جميع الفرقاء. التخبط هو سيد الموقف، والحوار في ظل البنادق هو خيار من عدة خيارات مرّة، ويمكن أن يكون أقلها مرارة. قيل قديماً إن أشد المعارك ضراوة، وأكثرها نصراً وتأثيراً، هي التي لا تسفك فيها قطرة دم واحدة، وتدور في أروقة الغرف المغلقة، وعلى طاولة النقاش، وبين ثنايا الكلمات. لكن، هل ينطبق هذا القول على حوار اليوم مع الحوثيين؟ وهل هذه القوى السياسية المتحاورة معه تخوض معركة الشرف، واستعادة الكرامة؟ أم أنها جزء من اللعبة سيقت إلى الحوار سوقاً، تكملة لبقية مخطط الحوثيين للهيمنة على اليمن؟
أسئلة كثيرة وصعبة، تدور في رؤوس اليمنيين جميعاً، تبحث عن إجابة، وربما الإجابة أكثر تعقيداً من الوضع الراهن. الشارع يغلي، والشباب رافضون فكرة الحوار مع الحوثيين، جملة وتفصيلا، ولهم في ذلك كامل العذر، إذ كيف تتحاور مع جماعة شهرتها في الكذب والخداع ونقض الاتفاقات قد بلغت عنان السماء؟ كيف تشرعن وتعطي غطاء سياسيا لعصاباتٍ، قتلت ونهبت ودمرت وعاثت في الأرض فساداً، وتحالفت مع قوى خارجية ورؤوس الفساد في اليمن لإسقاط الدولة، وإحلال المليشيات المسلحة مكانها.
القوى السياسية متناقضة، فبين من يوافق على الحوار فكرة، ومن يضع الشروط المسبقة لدخوله، ومن يرجو نتائج قبل دخول الحوار أصلا. فلا بديل للحوار إلا الاقتتال، وهناك قوى سياسية، ينطبق عليها المثل "نسمع جعجعة ولا نرى طحناً"، وهي الأحزاب اليسارية خصوصاً، وقد هرمت وترهلت في دهاليز السياسة، وربما ليس في وسعها الاستمرار في الحياة، إلا على التنفس الاصطناعي، مرة تهدد بالانسحاب، ومرة تنسحب ثم تعود، بيد أن وجودها من عدمه لا يشكل فارقا. ولهذا، تحاول استغلال الفرصة، لكسب تعاطف شعبي، لعلها تنعش ذاكرة الناس بأمجادها في العصور الغابرة.
لكن، على أرض الواقع، وبعيدا عن أروقة السياسة، تسير الأمور نحو الحرب والاستعداد لها، وكأن ما يجري في صنعاء شأن آخر، فإذا اتجهت شرقا، فهذه مأرب التاريخ كنز اليمن المطمور في رمال الصحراء، الأرض المنسي سكانها، المعروفة ثرواتها، مأرب بقبائلها وشيوخها وخيلها ورجلها قد أجمعت على أن لا يدخل إليها الحوثي عنوة، إلا على جثث أهلها. هكذا تحدث شيوخها، وقالوا (أرضنا عرضنا)، وأهمية مأرب لمن يريد السيطرة على اليمن كأهمية الماء لمسافر الصحراء. وليس بعيداً عن مأرب، فهذه شبوة قد استنفر شيوخها وقياداتها العسكرية والمدنية، من كل حدب وصوب، لتشكيل مجلس يدير المحافظة، ويدافع عنها، في حال محاولة أية جماعة السيطرة عليها، وأهمية شبوة كأهمية مأرب.
يشكل الحوثيون أكبر القوى تخبطا، وكأنهم وقعوا في فخ انتصاراتهم، فعلى الأرض، ليس في وسعهم السيطرة على أكثر مما هم فيه الآن، فمأرب أوقفتهم من دون قتال، والبيضاء إحدى بوابات الجنوب، بقبائلها الشرسة، لقنتهم دروسا قاسية على مدار شهور، جعلتهم يحسبون لها ألف حساب. كان الحوثيون، بحسب مخططهم، يستهدفون مراكز القوة العسكرية والقبلية والاقتصادية، بحيث لا يستطيع أحد، بعد ذلك، أن ينبس ببنت شفة، اعتراضا على ما يريدون. سلمت لهم المعسكرات تسليم الأهالي، بفعل الخيانة وقيادات تدين بالولاء للمخلوع علي صالح، واستطاع الحوثيون الهيمنة على القبائل المحيطة بصنعاء، بفعل الامتداد الفكري الزيدي والقوة العسكرية التي بيديه، ولم يعد في استطاعته الذهاب إلى أبعد من ذلك، ومراكز القوة الاقتصادية، خصوصا النفط، تحميها القبائل بضراوة، ليس بمقدور الحوثي، وحده، أن يتحمل فاتورة باهظة، في حال قرر خوض مجازفة مثل هذه، فله تجربة مريرة في الجوف.
وسياسياً، لم يخططوا لملء الفراغ الدستوري الذي أحدثه هادي والحكومة بالاستقالة، أو، بمعنى أصح، لا يريدون الذهاب منفردين مكشوفي الرؤوس إلى حكم اليمن، ليس أمام الجميع إلا التوافق والاتفاق، وإلا فإننا أمام أبواب ستفتح، وسيكون من الصعب إغلاقها.