وجه آخر للغرابة في فلسطين

25 نوفمبر 2014

فلسطينيون في غزة يتظاهرون دعماً لفصائل المقاومة (26أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

الاختلاف والصراع والاقتتال الدموي الذي دار سنوات بين أكبر فصيلين سياسيين مسلحين على الساحة الفلسطينية، فتح وحماس، أثار دائماً دهشة العرب والمتابعين، كونه يسيء لتاريخ القضية الفلسطينية وعدالتها، ولأنه يبتعد، بالصراع، من مواجهة المحتل الإسرائيلي إلى الاقتتال بين الشركاء في القضية، فضلاً عن أنه يمثل صراعاً على جلد الدب قبل اصطياده؛ فلا سلطة فعلية على أرض فلسطين، ولا حكومة نافذة، وصولاً إلى أن ذلك الصراع الذي أفضى مراراً إلى الاقتتال، قام على قتل بدم بارد، نفذته فصائل طالما رددت أنها تدافع عن الإنسان الفلسطيني، وتبغي تحريره، إلى آخر كل هذه الوجوه الغريبة في ذلك الاقتتال المعيب.
ثمّة، وسط هذه الوجوه الظاهرة للعيان، وجه آخر للغرابة، لا يلفت الانتباه للوهلة الأولى، وسط الصدمة بالصراع نفسه، هو أن هذا الاقتتال الداخلي يمثل أول حالة اقتتال أهلي في التاريخ العربي المعاصر، لا يقوم على أساس عنصري أو طائفي أو مذهبي، وإنما على أساس سياسي. فكل "الحروب الأهلية" التي نعرفها في العالم العربي كان أساسها التمايز العرقي والعنصري، فيتقاتل الشركاء في الوطن دفاعاً عن حضور كل فئة عنصرية وحصتها في الحكم وخيرات البلاد، أما الأفكار السياسية فلا تكون حاضرة إلا واجهة تبريرية للاقتتال. هذا ما يحدث في العراق وسورية ولبنان وكل مكان عربي.
في ذلك الصراع الفلسطيني المعيب، يتحارب الفرقاء على أساس البرامج السياسية، دفاعاً عن حصة وحضور كل برنامج سياسي في النفاذ والتطبيق. لذلك، يكون طبيعياً أن تجد أفراداً من العائلة نفسها، ينتمي بعضهم إلى طرف في الصراع وآخرون إلى الطرف الآخر، وهو أمر ليس موجوداً في ساحات الاقتتال الأهلي الأخرى، فلا تجد الأخوة والأقارب إلا في طرف واحد من الصراع.
قد يكون مُفسّراً أن يعرّض الناس أنفسهم للموت في الصراعات الأهلية، دفاعاً عن وجودهم العرقي أو الديني، فهم يظنون، ساعتها، أن في الأمر تضحية لأجل مستقبل أولادهم وأخوتهم وعائلاتهم: إنهم يموتون ليهبوا الحياة لأحبائهم، ولو لم يفعلوا ذلك لنهبت حقوقهم، وعاشوا أذلاء، جيلاً بعد جيل. أما ما هو غريب إلى حد كبير، فهو أن يعرض الناس أنفسهم للموت، دفاعاً عن أشياء لا تخصهم وحدهم، ولا تحدد بالضرورة مستقبل أولادهم وأحبائهم، فقد يموت الرجل، وهو في صف حماس، فيما يكبر الأبناء ليلتحقوا بصفوف فتح، أو العكس، كما قد ينحاز المرء، اليوم، إلى صفوف إحدى الحركتين المتخاصمتين، ويعرض حياته للخطر، ثم تتغير قناعاته السياسية، بعد سنوات، ويقرر الانتقال إلى الصف الآخر، فليس ثمة ما يمنع ذلك نظرياً، على عكس الحال في الصراعات العرقية التي يتوزع الناس فيها على أساس ما لا يملكون تحديده، ولا تغييره. هذا يعني أن الصراع الفلسطيني الداخلي لم يكن يمثل يوماً مسألة وجود، حتى يتحدد بقاعدة "قاتل أو مقتول"، أفلا يعد خضوعه لهذه القاعدة، غريباً؟

حتى الخلفية الوطنية التي قام عليها هذا الصراع، وقوامها مسألة السلام مع إسرائيل التي تنطوي بالنسبة لحماس على تنازل عن جزء أساسي من أرض فلسطين التاريخية، وتعني بالنسبة لفتح حكمة وموضوعية في التعاطي مع ممكنات الفلسطينيين في هذه المرحلة التاريخية، حتى هذه الخلفية لا تقدم تفسيراً لمسألة الصراع حتى الموت بين كوادر ومجموعات الحركتين، في غير موقف ومناسبة وحادثة، من ذلك النوع من التفسيرات التي تتناسب مع ما عرفه التاريخ العربي المعاصر من صراعات أهلية على الوجود، كما تتناسب مع بنى مجتمعاتنا العصبية. هل يمكننا أن نقول، إذن، إن "الصراع على القضية"؛ رؤيتها وجوهرها ومفاهيمها ومساراتها، مثّل للفلسطينيين قاعدة تشبه قواعد صراع الطوائف والأعراق على وجودها؟
الاقتتال الأهلي الفلسطيني الذي نتمنى أن يكون توقف فعلاً، ونهائياً، بعد كل ما تعرضت له غزة، وما تتعرض له مدن الضفة، وما تعيشه القدس اليوم، مثّل ما يمكن اعتباره "اختلافاً نوعياً" في الصراعات الأهلية العربية، بل العالمثالثية، التي قامت كلها على أساسات عنصرية. كان، ونرجو أنه "كان" فعلاً، أول صراع أهلي سياسي، على الرغم من أنه ظل، في كل الأحوال، معيباً ومحزناً ومستهجناً، ولا ندري كيف نصنف الذين راحوا ضحيته ممن كانوا متورطين فيه، على مرّ السنين، فقد أهدروا دماءهم، بعيداً عن "الجهاد" و"النضال".

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.