كانت دقائق ما قبل اللقاء ثقيلة جداً. شعر أن قلبه يكاد يقفز من مكانه. هكذا وصف معن الحاصباني الدقائق الأخيرة قبل هبوط الطائرة على مدرج مطار إسطنبول. هذه الدقائق كانت تفصله عن لقائه الأول بابنة أخيه مروان، بعد وقت طويل من الغياب فرضه عليه النظام السوري، لأنه رفض حمل السلاح في لبنان.
حرم من رؤية عائلته مدة 25 عاماً بسبب الغياب الإجباري الذي فرضه عليه النظام السوري، حين وجد نفسه مضطراً إلى مغادرة سورية، من دون أي أمل بالعودة. في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وأثناء تأديته خدمة العلم في سورية، رفض نقله إلى إحدى الثكنات التابعة للجيش السوري في لبنان. في ذلك الوقت، كان على قناعة بأن الوجود السوري في لبنان بمثابة احتلال وليس حماية. موقفه أدى إلى اعتقاله، وتحويله إلى مركز تأديبي تابع للاستخبارات العسكرية ليقضي هناك تسعة أشهر، تعرض خلالها للتعذيب بكافة أشكاله. بعدها، تقرر إرساله مجدداً إلى لبنان، إلا أنه رمى سلاحه على الأرض، مصراً على موقفه.
عن تلك المرحلة يقول معن: "كنت أُصلب عاريّاً لأيام عدة في ساحة مركز التأديب. درجة الحرارة لم تكن تتعدى الصفر. لم يكونوا يقدمون لي الطعام. كنت أصرخ: يا مروان يا خيي، فأشعر فوراً بوجوده إلى جانبي. أحس أنه يضمني بقوة ويمنحني كثيراً من الدفء للحظات، فأعود وأتماسك وأسترجع بعضاً من قواي. ما زالت روح مروان تحتضنني حتى هذه اللحظة".
معاناة معن لم تنته هنا. رفضه حمل السلاح في لبنان أدى إلى تحويله إلى محكمة ميدانية بتهمة الخيانة العظمى. هناك، أطلق أحد الضباط النار على قدمه اليسرى، وتم تحويله إلى مستشفى ميداني، ليعاد نقله إلى مركز التأديب قبل أن يتعافى. مرة أخرى، كان على موعد مع التعذيب الشديد، ما أدى إلى كسر في عموده الفقري. بعدها، عانى بسبب عجزه عن المشي لفترة طويلة.
عام 1989، استطاع الهرب من سورية بمساعدة أصدقاء، ثم عولج على نفقة منظمة فلسطينية في اليونان، ولم يستطع الاتصال بذويه إلا بعد مرور خمسة أعوام على هروبه. استقر به المطاف في بلجيكا ولم يتوقف يوماً عن العمل لأجل سورية، كان مسؤول مكتب الدفاع عن الحريات الديموقراطية وحقوق الإنسان لنحو سبعة أعوام. وعمل مع منظمات عدة لكشف جرائم النظام السوري.
عاد إليه الأمل مع انطلاقة الثورة السورية، لكن ذلك لم يستمر طويلاً. عاد النظام السوري ليأخذ منه جزءاً من ذاكرته الحية. اعتقل النظام شقيقه مروان، الذي توفي بعد ثلاثة وعشرين يوماً بسبب التعذيب. يروي لـ "العربي الجديد" تفاصيل تلقيه الخبر. يقول: "كنت أتابع صفحات فيسبوك بشكل دائم لمعرفة أي خبر عن مروان. ذلك اليوم، وصلتني رسالة من صديقة تستفسر عن صحة الخبر، لم أكن أعرف عن أي خبر تتحدث، صرت أبحث حتى قرأت خبر سقوط مروان شهيداً تحت التعذيب. تلك اللحظة، خسرت روحي وحياتي، فقدت معلمي وصديقي وأخي القادر، دائماً، على مساعدتي على النهوض، لم أستطع لحظتها استيعاب الكارثة. في الحقيقة، ما زلت عاجزاً عن استيعابها".
دفع استشهاد مروان الحاصباني (من السويداء)، وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان، عائلته، إلى مغادرة سورية نحو تركيا تحت ضغط الملاحقة والتهديد. في البلد الجديد، صار بإمكان معن أن يرى أبناء مروان للمرة الأولى في حياته.
في السياق، تقول يارا، الابنة الأصغر لمروان: "كنا دائماً ما نتحدث مع معن عبر الهاتف أو السكايب، لكن رؤيته أمامي في مطار إسطنبول كان أمراً مختلفاً تماماً". تتابع: "لم يتطلب الأمر جهداً لأميزه من بين القادمين في المطار، مجرد أن وقعت عيناي عليه، انتابني إحساس لا يوصف، لقد رأيت مروان، رأيت أبي أمامي، قفزت لأعانقه".
من جهته، يوضح معن: "خمس دقائق من العناق أذابت جليد ربع قرن من الزمن. ما من كلمات يمكن أن تصف هذه اللحظات". على الرغم من الجو العاصف وإلغاء ثلاث رحلات جوية، تابع معن رحلته المرهقة من إسطنبول باتجاه مدينة غازي عنتاب، ليلتقي هناك ببقية أفراد العائلة. بالنسبة إليه، السنوات الـ 25 كانت كافية. بالفعل، وصل في وقت متأخر من الليل ليجد نوار تنتظره في الشارع أمام منزلها.
رأت نوار والدها في كل تفاصيل عمها معن. تقول: "لمعن ملامح أبي. عيناه، ابتسامته، صوته. عندما كان ينزل من السيارة، كان الحي كله يسمع نبضات قلبي. رؤية معن أعادت لنا الحياة".
من جهته، يقول معن لـ "العربي الجديد": "أحب أن أقول لكل العالم، إن روح مروان ما زالت حاضرة بيننا، ما زال يكلمني ويصغي إلى مشاكلي كما كان دائماً، مروان لم يخذل سورية ولم يخذلني يوماً. عائلته، أيضاً، ستبقى الأقرب إليّ ما حييت".
معاناة معن الحاصباني تشبه إلى حد كبير معاناة عدد كبير من أولئك الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد والاستقرار في بلاد جديدة والابتعاد عن عائلاتهم. مع ذلك، كثيرون لم يفقدوا الأمل في العودة إلى بلادهم يوماً ما.
حرم من رؤية عائلته مدة 25 عاماً بسبب الغياب الإجباري الذي فرضه عليه النظام السوري، حين وجد نفسه مضطراً إلى مغادرة سورية، من دون أي أمل بالعودة. في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وأثناء تأديته خدمة العلم في سورية، رفض نقله إلى إحدى الثكنات التابعة للجيش السوري في لبنان. في ذلك الوقت، كان على قناعة بأن الوجود السوري في لبنان بمثابة احتلال وليس حماية. موقفه أدى إلى اعتقاله، وتحويله إلى مركز تأديبي تابع للاستخبارات العسكرية ليقضي هناك تسعة أشهر، تعرض خلالها للتعذيب بكافة أشكاله. بعدها، تقرر إرساله مجدداً إلى لبنان، إلا أنه رمى سلاحه على الأرض، مصراً على موقفه.
عن تلك المرحلة يقول معن: "كنت أُصلب عاريّاً لأيام عدة في ساحة مركز التأديب. درجة الحرارة لم تكن تتعدى الصفر. لم يكونوا يقدمون لي الطعام. كنت أصرخ: يا مروان يا خيي، فأشعر فوراً بوجوده إلى جانبي. أحس أنه يضمني بقوة ويمنحني كثيراً من الدفء للحظات، فأعود وأتماسك وأسترجع بعضاً من قواي. ما زالت روح مروان تحتضنني حتى هذه اللحظة".
معاناة معن لم تنته هنا. رفضه حمل السلاح في لبنان أدى إلى تحويله إلى محكمة ميدانية بتهمة الخيانة العظمى. هناك، أطلق أحد الضباط النار على قدمه اليسرى، وتم تحويله إلى مستشفى ميداني، ليعاد نقله إلى مركز التأديب قبل أن يتعافى. مرة أخرى، كان على موعد مع التعذيب الشديد، ما أدى إلى كسر في عموده الفقري. بعدها، عانى بسبب عجزه عن المشي لفترة طويلة.
عام 1989، استطاع الهرب من سورية بمساعدة أصدقاء، ثم عولج على نفقة منظمة فلسطينية في اليونان، ولم يستطع الاتصال بذويه إلا بعد مرور خمسة أعوام على هروبه. استقر به المطاف في بلجيكا ولم يتوقف يوماً عن العمل لأجل سورية، كان مسؤول مكتب الدفاع عن الحريات الديموقراطية وحقوق الإنسان لنحو سبعة أعوام. وعمل مع منظمات عدة لكشف جرائم النظام السوري.
عاد إليه الأمل مع انطلاقة الثورة السورية، لكن ذلك لم يستمر طويلاً. عاد النظام السوري ليأخذ منه جزءاً من ذاكرته الحية. اعتقل النظام شقيقه مروان، الذي توفي بعد ثلاثة وعشرين يوماً بسبب التعذيب. يروي لـ "العربي الجديد" تفاصيل تلقيه الخبر. يقول: "كنت أتابع صفحات فيسبوك بشكل دائم لمعرفة أي خبر عن مروان. ذلك اليوم، وصلتني رسالة من صديقة تستفسر عن صحة الخبر، لم أكن أعرف عن أي خبر تتحدث، صرت أبحث حتى قرأت خبر سقوط مروان شهيداً تحت التعذيب. تلك اللحظة، خسرت روحي وحياتي، فقدت معلمي وصديقي وأخي القادر، دائماً، على مساعدتي على النهوض، لم أستطع لحظتها استيعاب الكارثة. في الحقيقة، ما زلت عاجزاً عن استيعابها".
دفع استشهاد مروان الحاصباني (من السويداء)، وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان، عائلته، إلى مغادرة سورية نحو تركيا تحت ضغط الملاحقة والتهديد. في البلد الجديد، صار بإمكان معن أن يرى أبناء مروان للمرة الأولى في حياته.
في السياق، تقول يارا، الابنة الأصغر لمروان: "كنا دائماً ما نتحدث مع معن عبر الهاتف أو السكايب، لكن رؤيته أمامي في مطار إسطنبول كان أمراً مختلفاً تماماً". تتابع: "لم يتطلب الأمر جهداً لأميزه من بين القادمين في المطار، مجرد أن وقعت عيناي عليه، انتابني إحساس لا يوصف، لقد رأيت مروان، رأيت أبي أمامي، قفزت لأعانقه".
من جهته، يوضح معن: "خمس دقائق من العناق أذابت جليد ربع قرن من الزمن. ما من كلمات يمكن أن تصف هذه اللحظات". على الرغم من الجو العاصف وإلغاء ثلاث رحلات جوية، تابع معن رحلته المرهقة من إسطنبول باتجاه مدينة غازي عنتاب، ليلتقي هناك ببقية أفراد العائلة. بالنسبة إليه، السنوات الـ 25 كانت كافية. بالفعل، وصل في وقت متأخر من الليل ليجد نوار تنتظره في الشارع أمام منزلها.
رأت نوار والدها في كل تفاصيل عمها معن. تقول: "لمعن ملامح أبي. عيناه، ابتسامته، صوته. عندما كان ينزل من السيارة، كان الحي كله يسمع نبضات قلبي. رؤية معن أعادت لنا الحياة".
من جهته، يقول معن لـ "العربي الجديد": "أحب أن أقول لكل العالم، إن روح مروان ما زالت حاضرة بيننا، ما زال يكلمني ويصغي إلى مشاكلي كما كان دائماً، مروان لم يخذل سورية ولم يخذلني يوماً. عائلته، أيضاً، ستبقى الأقرب إليّ ما حييت".
معاناة معن الحاصباني تشبه إلى حد كبير معاناة عدد كبير من أولئك الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد والاستقرار في بلاد جديدة والابتعاد عن عائلاتهم. مع ذلك، كثيرون لم يفقدوا الأمل في العودة إلى بلادهم يوماً ما.