استمع إلى الملخص
- واجه النازحون تحديات كبيرة، حيث اضطر البعض للعيش في ظروف صعبة، بينما أظهر آخرون كرمًا باستضافة العديد من العائلات في منازلهم، مما زاد من التحديات اليومية.
- لعبت الجمعيات الأهلية والمنظمات الإنسانية دورًا حيويًا في توفير الاحتياجات الأساسية، مع التركيز على وسائل التدفئة والمواد الغذائية، وسط دعوات لتدخل الدولة لدعم الجهود.
على غرار مناطق عدة، فتحت بلدة عرسال البقاعية بيوتها فضلاً عن مراكز إيواء للنازحين الهاربين من القصف الإسرائيلي، ويحاول الأهالي والجمعيات تأمين احتياجات فصل الشتاء
مع تصعيد الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على لبنان في 23 سبتمبر/ أيلول الماضي، عمدت عرسال، وهي البلدة النائية في بعلبك (البقاع الشمالي، شرقي لبنان) إلى استضافة النازحين الذين اضطروا إلى ترك بيوتهم جراء القصف الإسرائيلي المتواصل، وسط غياب للدولة وإداراتها وهيئاتها الإغاثية. وعلى الرغم من الاختلاف بين حجم الاحتضان الشعبي بين حرب يوليو/ تموز عام 2006 والعدوان الحالي، حَيَّد أهالي عرسال مواقفهم السياسية جانباً، وعمدوا إلى استقبال نازحين في بيوتهم.
وشكلت بلدة عرسال، وهي أكبر بلدات محافظة بعلبك - الهرمل والواقعة على سلسلة جبال لبنان الشرقية، في حرب تموز صيف عام 2006 ملاذاً آمناً لعشرات آلاف اللبنانيين هرباً من آلة الموت الإسرائيليّة. حينها استُقبل النازحون بالترحاب. وتكرر الأمر في الوقت الحالي. ابنة عرسال مريم أ. (43 عاماً)، تستقبل في منزلها الصغير منذ 25 سبتمبر/ أيلول الماضي، ثلاث عائلات من قرية اللبوة المجاورة (تقع على مسافة 7 كلم من بلدتها). تقول لـ "العربي الجديد": "لا معرفة سابقة بيننا أو أيِّ علاقة قرابة، فقط معرفة عابرة بابنتهم المقيمة في بيروت من خلال إحدى الجمعيات. بعد يومين على توسيع العدوان، اتصلت بي وطلبت مني استضافة عائلتها. حضرت إلينا 4 نساء و7 أطفال برفقة شابٍّ من ذوي الإعاقة، علماً أن عددنا خمسة أشخاص. بات البيت مثل المدرسة".
وفي ما يتعلق بالاكتظاظ في المنزل وكيفيّة العيش وازدياد الحاجيّات اليومية، تقول مريم: "بالتأكيد زادت الاحتياجات بشكلٍ كبير. تختلف احتياجات 5 أشخاص عن 17 بالتأكيد، من الطعام إلى الماء والكساء والتدفئة. كما أن في البيت دورة مياه واحدة".
وتطالب في حديثها لـ "العربي الجديد" الدولة بالاهتمام الفعلي بالنازحين. وتقول إن "الناس خرجت من بيوتها بثيابها، ومنهم من لا يملك أيّة مقَوّمات للصمود. نتشارك معهم كافّة المصاريف لكنّنا مقبلون على فصل الشتاء، حيث يخف العمل وتشح مصادر الدخل. إذا لم تلتفت الدولة إلينا فسنعاني جميعاً حالنا حال كل البيوت التي تستقبل ضيوفاً. الجميع بات يئن تحت الضغوط. لذلك على الدولة المسارعة في دعمنا وإنقاذنا على أبواب البرد والصقيع".
مناكفات
الواقع ليس وردياً دائماً. ولم يجد جميع النازحين الاحتضان والسقف الذي يقيهم البرد. خلال فترات النزوح الأولى، اضطر نازحون إلى افتراش الأرض والحدائق العامة، فيما بقي آخرون في السيارات لأيام، أو ناموا في العراء. في المقابل، عمد البعض إلى فتح بيوتهم للناس. ج. قاسم يقيم في الضاحية الجنوبية لبيروت منذ أربعين عاماً. ومع توسع العدوان، هرب إلى بيته القروي في عرسال برفقة أقاربه وجيرانه وباتوا ثماني عائلات في منزلٍ واحد. تقول ابنته ر. قاسم: "بالتأكيد، فإن النزوح في حد ذاته مأساة كبيرة حتّى لو كان بيتنا. عادة ما نمضي فيه أشهر الصيف ولا نعيش فيه شتاءً لأنه غير مُجهّز بأدوات التدفئة. نزحنا، وعددنا قرابة الأربعين شخصاً، وغالبيتنا من النساء والأطفال. ظننا أن الفترة ستكون قصيرة، لكن الوضع اختلف كلياً في الوقت الحالي".
وحول تفاصيل الحياة اليوميّة لهذا العدد من الأشخاص، تقول قاسم: "لنكن واقعيين ونتكلم بصدق: كيف تتصوّر حياة عشرين امرأة في ذات المنزل؟ نشهد مشادات وصراخاً وخلافات حول أبسط الأمور، وجدالات. تهدد بعض النساء أحياناً بالعودة إلى الضاحية الجنوبية والعيش تحت القصف، لكن ذلك لا يحدث بطبيعة الحال". تختم حديثها متمنية انتهاء الحرب قريباً "كي نعود إلى بيتنا وعملنا وحياتنا وتبقى كل الأحداث ذكريات جميلة".
استعدنا أُسْرَتنا مجدداً
أما ما يخص خبير السير المحلف عبد الحكيم السلطان (70 عاماً)، فقد كان النزوح سبباً لجمع شمل عائلته الصغيرة (7 فتيات وشاب يعمل في السعوديّة). يقول لـ "العربي الجديد": "ما من وجه إيجابي للحرب مهما كان رأينا أو انتماؤنا السياسي. لا أحد يمتلك ترف الحديث عن إيجابيات للحرب. فكيف عندما تطاول وطننا وأرضنا وأهلنا؟ أنا ابن مؤسسة قوى الأمن الداخلي وأمضيت فيها أكثر من نصف عمري".
يتابع السلطان: "أمضيت معظم حياتي خارج بلدتي. لذلك أبنائي غير معتادين على حياة القرية ونمط عيشها. وبناتي الأكبر سناً لم يعشن طويلاً مع الأصغر سناً بسبب زواجهن. لذلك كان النزوح سبباً في جمعنا، بناتي وأزواجهن والأطفال مع والدتي المُسِنّة. أعرف أنَّ الأمر ليس سهلاً أو بسيطاً عليهم، فلدى كل إنسان خصوصيته، لكننا مجبرون الآن ولسنا مُخيّرين. وبين الفرح برؤية عائلتي كلََّها، والخوف من المجهول القادم، أراقب بسرور مشاحنات الأحفاد ومشاكلهم الطفوليَّة، أملي بالله أن يكبروا بأمنٍ وسلام ، لا تتكرَّر عليهم الحرب مجدَّدًا"، يختم السلطان.
الجمعيّات تستر عيوب الدولة
مع انطلاق شرارة الحرب، سارع محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر، إلى توجيه النازحين نحو قرى دير الأحمر، القاع، رأس بعلبك، الفاكهة، الجديدة، حدث، بعلبك، عرسال، بوصفها أماكن آمنة. وبحسب الأرقام الرسمية المسجّلة في بلدية عرسال، استقبلت مراكز الإيواء الثمانية 431 عائلة، فيما توزعت 2134 عائلة على منازل المواطنين بعدد إجمالي يزيد عن أحد عشرة ألف شخص غالبيتهم من قرى وبلدات محافظة بعلبك الهرمل، بالإضافة إلى آخرين من الجنوب والضاحية الجنوبية.
وسمّت الدولة عرسال منطقة آمنة من دون أي تقديمات أو دعم. من أصل 12.500 حصّة غذائيّة وزَّعها المحافظ، وصلت الى البلدة فقط 230 حصَّة (بحسب البلدية)، ما دفع الجمعيات الأهلية والمنظمات الإنسانية العاملة في عرسال إلى المساعدة والمبادرة إلى إيواء الناس وتأمين حاجياتهم.
ويقول رئيس جمعية "جسور النور" بسيم الأطرش، لـ "العربي الجديد": "انتظار الدولة يعني ترك الناس في العراء وفي البرد والصقيع. تفرّغنا مثل كل الجمعيات في بلدتنا للعمل على إغاثة النازحين، وبادرنا إلى تأمين لوازم النوم في المراكز الثمانية وفي بعض البيوت، في وقت تعمل جمعيات أخرى على تأمين لوازم المدارس اللوجستية، مثل تجهيز دورات المياه، تأمين الكهرباء، تأمين وجبات غذائية ومواد التدفئة وحاجيات النظافة والطبابة والأدوية، حتى يتمكن الناس من الإقامة فيها بشكل لائق".
وحول الحاجيات الضرورية الملحّة في الوقت الحالي، يؤكد الأطرش أن الأساس في الوقت الحالي هو كيفية مواجهة البرد والصقيع. نسكن على ارتفاع يراوح ما بين 1500 و1950 متراً عن سطح البحر. تحتاج المنازل إلى تأمين المدافئ ومادة المازوت. أما في المدارس، فالوضع مختلف لأنها غير مجهّزة، لذلك على الدولة المسارعة في تأمين السجّاد لوضعه في الغرف، وتأمين ألواح إسفنج إضافية، وأغطية سميكة تناسب مناخنا، وتجهيز الخزّانات ودورات المياه بالمعدّات اللازمة لمنع تَجمد المياه، وتأمين الأدوية الضرورية في كل مراكز الإيواء، وقبل كلّ ذلك تأمين المازوت وأدوات التدفئة".
إلى ذلك، يقول النائب السابق في كتلة المستقبل النيابيّة بكر الحجيري، لـ "العربي الجديد"، إن "واقع البلد السياسي في حرب تموز 2006 يختلف كثيراً عن واقعنا اليوم، إذ كان الانقسام أقل وكان هناك توازن في الحكم بنسبة كبيرة، وكانت كل الأطياف ممثلة في الحكومة والمجلس النيابي. والأهم هو التلاحم بين كل المكوّنات في مواجهة العدوان، ما ساهم في خلق جو وطني عام وبالتالي احتضان من نزحوا من بيوتهم". وعلى الرغم من الكثير من الاضطرابات السياسية خلال الأعوام الماضية، يؤكد الحجيري أن أهل بلدته سارعوا إلى فتح بيوتهم قبل تسمية الدولة مراكز الإيواء فيها من دون أيِّ دعم فعلي. يضيف: "نحن في عرسال عملنا بأصالتنا ولبينا نداء الرئيس (مجلس الوزراء السابق) سعد الحريري لاحتضان إخواننا".