09 سبتمبر 2024
.. والعراق أيضاً
انضمّ العراق إلى الدول العربية التي تشهد موجات من الغضب الشعبي، ما بات يوحي بموجة ثورية عربية جديدة، تشابه الموجة الأولى عام 2011 التي فجرتها الثورة التونسية في حينه. موجة أنضج سياسياً، وأوعى معرفياً، بدأت في السودان والجزائر، وامتدّت في أكثر من قطر عربي بأشكال ونواحٍ مختلفة، لتظهر في تونس عبر ثورة انتخابية، أطاحت مجمل القوى السياسية التي ادّعت تمثيل الثورة، يسارية أو يمينية، ولحقتها مصر بمظاهرات ضخمة المعاني والدلالات السياسية، وإن كانت حذرة وهادئة ومجهولة الأفق، وتبدّت في الأردن التفافاً شعبياً كبيراً خلف اعتصام المعلمين وإضرابهم عن العمل، بما يعكس عمق الفجوة بين الشارع والنظام، منذرة بإمكانية تصاعد الاحتجاجات مستقبلاً، ومرّت، أو ما زالت تمرّ، ولو سريعاً، في لبنان من خلال بعض المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات، الإلكترونية منها والميدانية التي تجاوزت الولاءات الطائفية والسياسية، لمصلحة شعارات ومطالب وطنية، تكسر قدسية النظام الطائفي وحصانته ممثليه الطائفيين، وها هي تصل إلى العراق، بموجات من الغضب والاحتجاج والثورة الوطنية الحاشدة في بغداد وجنوب العراق ووسطه، وربما امتدّت قريباً، لتشمل جميع مدنه وبلداته.
وقد ولدت الاحتجاجات العربية أخيراً موجات جديدة من الأمل والتفاؤل الواثق بإمكانات شعوب المنطقة وقدراتها على تغيير الواقع الرثّ الذي نعيشه في كل بقعة من بقاع الوطن العربي، وأدّت المظاهرات العراقية تحديداً إلى فتح نافذة جديدة، تطل بنا على مستقبل خالٍ من الانقسامات
الطائفية والعرقية، بعد تصاعد حدّة هذه الانقسامات في منطقتنا أخيراً نتيجة جملة من العوامل، منها سياسات النظم الطائفية، والنهج الطائفي والإجرامي الذي كرّسته الحكومات المسيطرة والفاعلة في المنطقة، في سياق تعاونها في قمع الثورات الشعبية، ولا سيما في سورية واليمن والبحرين، فضلاً عن غياب الفعل والوعي السياسي الشعبي سنوات طويلة، نتيجة السياسات الاستبدادية الممارسة تجاه شعوب المنطقة، والممارسات السلطوية الممنهجة التي غرست بذور التخلف والجهل والانقسام في المجتمع. فللمظاهرات العراقية خصوصية، ووقع مختلف على شعوب المنطقة، كيف لا وهي محمّلة بمطالب اجتماعية وطنية، كاسرة للطوائف والأعراق، لبعضها طابع يومي معيشي بحت، مثل المطالبة بتوفير الخدمات الأساسية، وإيجاد فرص عمل، وأخرى لها توجه وطني، كالمطالبة بمحاسبة المسؤولين المتورّطين بالفساد والاختلاس والسيطرة على موارد الدولة، وانتقاد جميع المراجع الدينية والسياسية على سطوتها وصمتها وتورّطها بالفساد، وبسوء الأحوال الاقتصادية، كتصاعد معدّلات الفقر والبطالة، وصولاً إلى بعض الأهداف والشعارات التي تدعو إلى استقلال العراق وتحريره من قوى الهيمنة والاحتلال، وفي مقدمتها إيران، مثل شعار "العراق حرّة حرّة وإيران تطلع برة". فمن اللافت في المظاهرات العراقية عموماً، والجديدة خصوصاً، طيفها الجغرافي والاجتماعي الواسع والمتنوع، الذي يعكس مشاركة غالبية الشرائح والفئات الشعبية المضطهدة، وكأنها تجسيدٌ عن وحدة الشعب العراقي، بجميع أطيافه ومكوناته، على الرغم من جميع الممارسات الطائفية والتجزيئية التي عمل الاحتلالان، الأميركي والإيراني، على ترسيخها في مؤسسات الدول والتشريعات والقوانين.
لكن على التوازي مع تصاعد الآمال المعلقة بالمظاهرات العراقية أخيراً، لا بد من بعض الحذر والتريث والهدوء في تحليلها، كي لا نرهق كاهل العراقيين اليوم بأوزان وأحمال هائلة وجبّارة، قد تقصم ظهر الحراك، وتضعف من قدرته على التغيير، وتحدّ من إمكانات تطوّره ونموه، وهو ما قد يودي، بالمبالغين في تفاؤلهم، إلى موجات إحباط جديدة أشد وطأةً من سابقتها، إذا حال لم تسر الأمور وفق أهوائهم وتوقعاتهم، ما قد يدفعهم إلى التقوقع والانعزال عن حركة الشارع والشعوب. وبالتالي، يفقد الشارع جزءاً من قواه الحية والضرورية في قادم الأيام. كما حدث معهم في مناسباتٍ عراقيةٍ سابقة، كانت قد نجحت، كما اليوم، في التعبير عن فقدان ثقة الشارع بجميع القوى والأحزاب والمرجعيات الدينية، من دون أن تتمكّن من إحداث تغيير جذري في بنية الحكم ومؤسساته وقوانينه، باستثناء نجاحها في فرض توازناتٍ انتخابيةٍ مختلفة، أفرزت رؤساء لمجلس الوزراء، مختلفين من حيث الاسم ومتطابقين في النهج.
طبعاً، لا يقلّل ذلك من أننا اليوم أمام بوادر لحراك وطني عراقي مبشّر، وربما قادر، في هذه
المرحلة، أو في مراحل مقبلة منه، على ردم الفجوة الطائفية التي أوجدها الاحتلالان، الأميركي والإيراني، بتناغم وتكامل فريد من نوعه بينهما. بقدر ما نحاول الإشارة إلى إحدى أهم مشكلات الحراك، والمتمثلة في عفويته التي تعني غياب الهياكل التنظيمية والسياسية الشعبية والثورية، المنبثقة من رحم معاناة العراقيين ونضالاتهم. فقد علمتنا ثورات الشعوب العربية أخيراً أن الاحتجاجات الشعبية العفوية غالباً ما تعجز عن الخلاص من هيمنة المافيا الحاكمة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً. كذلك تزداد الصعوبات والعقبات في حالة العراق، لأن غالبية القوى السلطوية والدينية والطائفية والانفصالية الموجودة تحظى بدعم إقليمي ودولي غير محدود، ولا سيما في مراحل الغضب والثورة الشعبية ذات الملامح الوطنية البارزة، كالحاصلة اليوم، كما يمتلكون قدرات مالية وإعلامية وعسكرية لا يستهان بها، فضلاً عن تحكّمهم بحشودٍ شعبية، لا يمكن تجاهلها، تطيعهم طاعة عمياء لا جدال فيها.
لذا، قد تسهل عفوية الحراك الاحتجاجي العراقي من مهمة قوى الفساد والإجرام والطائفية المتمثلة بحرف الاحتجاجات، أو قمعها، أو دبّ الخلاف والانقسام بين مكوّناتها الاجتماعية، كما حصل في بعض تجارب الثورات العربية، وكما خبر العراقيون أيضاً في السنوات الماضية في أكثر من موجةٍ من موجات الغضب الشعبي، الأمر الذي يتطلب العمل على تنظيم الحراك وتأطيره وترتيب أولوياته وتحديد أهدافه، ولو بحدها الأدنى، كما حصل في تجربتي السودان وتونس، إذ يحتاج الحراك الشعبي العربي إجمالاً، والعراقي خصوصاً، لبديلٍ ثوريٍّ ذي شرعية شعبية، وأهداف وبرامج وطنية، تعبّر عن سيادة الوحدة والمساواة والعدالة بين جميع أفراد المجتمع، وتزيل المظالم عن المضطهدين من المفقرين والمهمشين، تخوض النضال ميدانياً مع الشعب، وتدير الاحتجاجات وتوجهها وفقاً للمرحلة، وبما يخدم أهدافه وغاياته.
لكن على التوازي مع تصاعد الآمال المعلقة بالمظاهرات العراقية أخيراً، لا بد من بعض الحذر والتريث والهدوء في تحليلها، كي لا نرهق كاهل العراقيين اليوم بأوزان وأحمال هائلة وجبّارة، قد تقصم ظهر الحراك، وتضعف من قدرته على التغيير، وتحدّ من إمكانات تطوّره ونموه، وهو ما قد يودي، بالمبالغين في تفاؤلهم، إلى موجات إحباط جديدة أشد وطأةً من سابقتها، إذا حال لم تسر الأمور وفق أهوائهم وتوقعاتهم، ما قد يدفعهم إلى التقوقع والانعزال عن حركة الشارع والشعوب. وبالتالي، يفقد الشارع جزءاً من قواه الحية والضرورية في قادم الأيام. كما حدث معهم في مناسباتٍ عراقيةٍ سابقة، كانت قد نجحت، كما اليوم، في التعبير عن فقدان ثقة الشارع بجميع القوى والأحزاب والمرجعيات الدينية، من دون أن تتمكّن من إحداث تغيير جذري في بنية الحكم ومؤسساته وقوانينه، باستثناء نجاحها في فرض توازناتٍ انتخابيةٍ مختلفة، أفرزت رؤساء لمجلس الوزراء، مختلفين من حيث الاسم ومتطابقين في النهج.
طبعاً، لا يقلّل ذلك من أننا اليوم أمام بوادر لحراك وطني عراقي مبشّر، وربما قادر، في هذه
لذا، قد تسهل عفوية الحراك الاحتجاجي العراقي من مهمة قوى الفساد والإجرام والطائفية المتمثلة بحرف الاحتجاجات، أو قمعها، أو دبّ الخلاف والانقسام بين مكوّناتها الاجتماعية، كما حصل في بعض تجارب الثورات العربية، وكما خبر العراقيون أيضاً في السنوات الماضية في أكثر من موجةٍ من موجات الغضب الشعبي، الأمر الذي يتطلب العمل على تنظيم الحراك وتأطيره وترتيب أولوياته وتحديد أهدافه، ولو بحدها الأدنى، كما حصل في تجربتي السودان وتونس، إذ يحتاج الحراك الشعبي العربي إجمالاً، والعراقي خصوصاً، لبديلٍ ثوريٍّ ذي شرعية شعبية، وأهداف وبرامج وطنية، تعبّر عن سيادة الوحدة والمساواة والعدالة بين جميع أفراد المجتمع، وتزيل المظالم عن المضطهدين من المفقرين والمهمشين، تخوض النضال ميدانياً مع الشعب، وتدير الاحتجاجات وتوجهها وفقاً للمرحلة، وبما يخدم أهدافه وغاياته.