بعد أربعة أعوام على رحيل ابنه الأكبر، في 28 يناير 2011، يروي علي حسن علي (52 عاما) الذي يفضّل مناداته بلقب "أبو مهاب"، حكاية الثورة المصرية، التي ارتوت بدماء ابنه وشهداء آخرين، لكنها لم تنبت، في رأيه، سوى الشوك حتى الآن.
يتحدث تارة باسم والد الشهيد، الذي لم يزره، منتظرا القصاص، وتارة باسم رابطة أصحاب الدم والهم،ّ التي تعمل على استعادة حق الشهداء، وتارة أخرى كسياسي يستطيع أن يحلل المشهد الراهن، ويصبو للاصطفاف ثانية في أرض المعركة.
في السطور التالية، حوار أجراه "العربي الجديد" مع والد شهيد "جمعة الغضب"، مهاب علي حسن، الذي كان عمره 19 سنة و5 شهور و8 أيام وقت رحيله، بحسب حسابات والده.
بداية.. إحكِ لنا كيف شارك مهاب في الثورة، وكيف رحل؟
مهاب ابني الأكبر، كنا صديقين، وكان يدرس في كلية الحاسبات والمعلومات. كان له صديق تونسي، اسمه أحمد، كانا يتواصلان على الإنترنت عند اندلاع الثورة التونسية، عرف منه كل تفاصيل الثورة في تونس، ما كان يحدث وكيف استخدموا المياه الغازية والخل في إزالة أثر الغاز المسيل للدموع. تجادلنا كثيرا حول النزول يوم 25 يناير، وبالفعل نزلنا إلى الميدان مباشرة.
يوم 28 يناير، اتفقنا على أن نصلي الجمعة ثم ننزل مباشرة. أحضر مهاب شنطة صغيرة، وضع بها زجاجة صغيرة من الخل، وجهز الموبايل لأنه كان مهتما بالرصد والتوثيق.
نحن نقطن في شارع جانبي من حي شبرا، كان هناك مدرعتا أمن مركزي وفرقة ضباط في بداية الطريق، تخطيناها، وطوال الطويق كانت المدرعات تقابلنا. حاولوا منع الناس من النزول، فقلنا لهم إننا نعمل في محل أحذية في وسط القاهرة بالقرب من التحرير، وعلى مشارف التحرير كانت قيادات أمنية عليا موجودة بكثافة وسط المدرعات، وعلى مرمى البصر كنا نرى سحب الغاز المسيل للدموع.
واصلنا السير إلى شارع الجلاء، قابلنا مسيرة هناك، انضممنا إليها، وقعت عدة اشتباكات بالطوب استمرت لساعات، في مواجهة الغاز المسيل للدموع والخرطوش الذي تطلقه قوات الأمن، حرق الشباب إطارات سيارات لإعاقة أية قوات من التقدم في اتجاه عبد المنعم رياض. طوال الوقت كان مهاب يصور الأحداث.
لاحقا نادت مجموعة من المتظاهرين بالتوجه إلى "ماسبيرو" (مقر اتحاد الإذاعة والتلفزيون)، بقينا هناك قليلا، ثم اتفقنا على العودة للاطمئنان على ابنتي، وهو كان يريد مقابلة صديقه، اسمه محمد فهيم، وتفريغ محتويات الكاميرا. بالفعل توجهنا لشبرا وافترقنا بالقرب من المنزل.
لم تمض سوى ساعة تقريباً، حتى فوجئت بأصدقاء له يطرقون الباب ويخبرونني أن مهاب مصاب. نزلت على الفور إلى مستشفى الإصلاح الإسلامي، وعلمت هناك أنهم اشتركوا في مسيرة بشارع شبرا وحدثت اشتباكات مع قوات الأمن. دخلت وجدت محمد فهيم، جالسا على كرسي وهو ميت برصاصة في الرأس، ثم صعدت إلى الرعاية المركزة للاطمئنان على مهاب، علمت أنه مصاب برصاصة في الكتف وأخرى في القلب، إلى أن خرج الطبيب وقال لي إنه مات. استقبلت الخبر بانهيار، وتم احتجازي في المستشفى.
وكيف استقبلت أختاه نبأ وفاته؟
أختاه، الأولى رحمة أصغر منه بعامين، تبعتني إلى المستشفى وعلمت بوفاة أخيها هناك، ونهيلة كان عمرها حينها حوالى 12 عاما، وأخبرها أقاربنا. أما أنا فلم أفق سوى في اليوم التالي، بعدما فقدت الوعي من أثر الصدمة.
لم يكن قد صدر قرار من النائب العام المصري بعد بدفنهم. الطبيب قال لي إذا أردتم دفنه، يجب أن توقعوا على تقرير يفيد بأن سبب وفاته هبوط حاد في الدورة الدموية. حينها توجهنا لنيابة روض الفرج لاستخراج تصريح بالدفن. قال لنا وكيل النيابة: لن أتمكن من فعل شيء الآن لعدم صدور قرار من النائب العام. انتظرت وأصررت على حفظ حق ابني، إلى أن صدر تصريح الدفن.
وفي اليوم التالي، 29 يناير، خرجنا بجثماني مهاب وصديقه محمد فهيم، فحدث موقف غريب، عندما بادرنا بدفن مهاب، اكتشفنا أننا حملنا جثمان محمد فهيم. فاتصلت مباشرة بوالد محمد فهيم، فقال لي إنه صلى عليه بالفعل، ثم أحضر الجثمان سريعا لاستبداله، وبهذا يكون تم الصلاة على مهاب مرتين. ومنذ يوم الدفن، لم أزر مهاب في قبره حتى يومنا هذا، لأنني عاهدت نفسي ألا أزوره إلا بعد الحصول على حقه. وحقه هو تطبيق جميع مطالب الثورة التي خرج من أجلها، والتي بالضرورة سيكون القصاص ممن قتله بينها، ولن أزوره دون أن أفي بوعدي حتى إن حال الموت بيننا.
كيف انخرطت في العمل السياسي العام بعد موت مهاب؟
بعد موت مهاب، مررت بفترة عاصفة في حياتي بعد دخولي في حالة اكتئاب شديدة، تلقيت فيها العلاج لعدة شهور، إلى أن بدأت أستعيد عافيتي من جديد، وأعمل على تنفيذ مطالب الثورة.
انضممت لحزب "الدستور"، وحاليا أنا عضو مؤسس في جبهة "طريق الثورة"، التي تشمل كل التيارات بما فيها التيار الإسلامي. كما أسست رابطة شهداء الثورة باسم "أصحاب الدم والهم".
ما رأيك في تظاهرات 30 يونيو 2013، وما تلاها من أحداث سياسية؟
لدي تحفظات على تظاهرات 30 يونيو، رغم أنني كنت من الداعين لها ولحملة تمرد، وقدمت 5 آلاف استمارة تمرد في بداية الحملة باسم أسر الشهداء.
منذ التفكير في حملة "تمرد" وأنا كنت واحدا من هؤلاء، ولكن بعد أسبوعين فقط انسحبت منها تماما، واستمرت حركة "أصحاب الدم والهم" في دعم حملة تمرد، لأنني اكتشفت أن 30 يونيو موجة مصنعة وأسميتها "تحالف الشياطين والملائكة".
لا أجد فارقا كبيرا بين 30 يونيو و3 يوليو، فقد كان واضحا أنه انقلاب عسكري من البداية، وقيل عني طابور خامس وخلايا نائمة بعدها.
وبعد مرور 4 سنين من الثورة لو عاد بي الزمن، وكانت جماعة الإخوان المسلمين موجودة في الحكم ويخطئون الأخطاء نفسها، كنا غيرنا طريقة مواجهتهم. لأنني بدأت أشعر الآن أن هناك عداءً للإسلام نفسه وليس للتيارات الإسلامية.
وكيف ترى المشهد السياسي بعد 3 يوليو؟
أجد أن الأمور تسير في سياق العسكرة، واكتشفت أن هدف 30 يونيو لم يكن نبيلا، لأن الوسيلة الديمقراطية التي هي صورة ورقة تمرد، تم الانفاق عليها وفتح لها المقرات وموّلتها بكل الأشكال أجهزة الدولة المختلفة، التي كانت المحرك الأساسي لها.
في فترة حكم الإخوان، اعتبرت الإعلان الدستوري من أهم قرارات محمد مرسي، واعتبرت أن أهمية القرار في استبداديته.
ما تعليقك على الحكم ببراءة الرئيس المخلوع، حسني مبارك؟
يوم النطق بالحكم الأول، 27 سبتمبر/أيلول 2014، الذي تم تأجيله شهرين، عرفت أن مبارك سوف يُبّرأ، وأن تأجيل النطق بالحكم تمهيد للبراءة، لأن أوراق القضية ضعيفة.
أسباب يقيني ببراءة مبارك كانت لأن القضاء في مصر مسيس، ويعمل كطرف سياسي منذ خلع مبارك في 11 فبراير/شباط 2011، وحتى عزل مرسي في 3 يوليو/تموز 2013، والدليل على ذلك أحكام الإعدام بالجملة على معارضي 3 يوليو، وفتيات يتم الحكم عليهن بالسجن سنوات بسبب دبوس أو بالونة، وبالتالي كان لدي يقين بأن القضاء لن ينصف الثورة، وبأن مبارك سيحصل على البراءة.
وكيف ترى المستقبل في مصر بعد حكم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي؟
أرى المستقبل يزداد عتمة. الثورة المصرية الآن لا تواجه فسادا ولا مؤسسات الدولة، ولكن تواجه تحالفات دولية، الموضوع أكبر بكثير من خلافات داخلية، ولكن اليوم أصبح الوضع والشأن المصري واضحين وجَلِيَّيْنِ للمصريين، يعرفون من هم أعداؤهم الحقيقيون. اليوم الجميع يتحدث في السياسة، ويتحدث في الأوضاع الحالية، ولأنني أرى أن سلطة الانقلاب لن تتمكن من تحقيق الحد الأدنى من طموح المواطن، فإن ذلك سيؤدي إلى سقوطهم عاجلا أو آجلا.
الناس لا يتحركون إلا تحت مؤثر، واليوم لو تجمع في ميدان التحرير 200 ألف مواطن مصري، أؤكد أن مصر كلها ستنزل ضد نظام السيسي، لأن أول قرار اقتصادي اتخذه بعد أن أصبح رئيسا لمصر، هو رفع الدعم عن أسعار الوقود وبالتالي رفع أسعار جميع السلع.
كل هذه القرارات وحديث السيسي المعادي للإسلام، والمليارات التي تلقاها ولم يستفد منها المواطن المصري، وطريقة تعامل وزارة الداخلية مع المواطنين التي تزداد قمعا وانتهاكا، وأسوأ مما كانت قبل الثورة، والمشاكل المرورية، وكذب الحكومة المتواصل على المواطنين، وتفاقم الأمراض التي تعصف بصحة المصريين، وتدني أوضاع التعليم، ستؤدي لسقوطه، لأنه لم يأتِ لحل الأزمات، بل جاء للقضاء على الثورة واستعادة الفساد والاستبداد.
وما رسالتك للشباب المصري؟
أقول للشباب: الحق يمكن أن يعاني من الباطل لسنوات، ولكن في النهاية لا بد أن ينتصر، ولن يحدث ذلك من دون الاصطفاف والعودة من جديد لأرض المعركة.