06 نوفمبر 2024
هنا تسكب العبرات
ليس ثمّة حماقة أكبر من أن يزور بلدَك وزيرٌ من بلدٍ جار، ويطلق في أثناء وجوده في ضيافة بلدك مواقف محذّرة ومهدّدة بلداناً أخرى، لبلدك معها علاقةٌ ما بشكلٍ أو بآخر، ثم أن يعلن من مدينة النجف العراقية العربية في عنجهيةٍ واضحةٍ "أننا باقون وهذه الأرض هي أرضنا". ولا يكتفي بذلك، بل يطالب البلد المضيف باتخاذ قراراتٍ تخصّ العلاقة ببعض الدول، وليس أكثر هوانا من أن يبلع المسؤولون في بلدك هذه الكومة من التدخلات والإهانات ويصمتون، ومن دون أن يحاول أيٌّ منهم أن يُخلي مسؤوليته، ولو بكلمتي عتاب.
هذا هو جانب من مشاهد غير مألوفةٍ في علاقات الدول، سجلتها زيارة وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، العراق، أخيرا، وكرّستها أجندةٌ مريبة، منها عقده اجتماعا مع رؤساء عشائر عراقية، وليست عشائر فارسية، لينقل لهم توجيهات "الولي الفقيه"، واجتماعا آخر مع قادة "المليشيات"، إذ دعا من خلالهم إلى أن تكون الأولوية في إعمار المناطق التي دمرت في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى الشركات الإيرانية التي "تأتي إلى العراق حبا بالإمام الحسين" كما قال، وليس لأي شيء آخر، ولقاءات مع رجال منظمات "مجتمع مدني" عراقيين، وليسوا من أبناء الجالية الإيرانية في العراق.
جرى ذلك كله على وفق برنامجٍ للزيارة، أعدته طهران، وأبلغت به الجهات العراقية مقدّما،
وكان في وسع الأخيرة، لو تمتعت بقدر من الشجاعة، أن تعترض على بعض فقراته التي تشكل مساسا بالسيادة العراقية (هل للعراق سيادة حقا؟)، وانتهاكا للقواعد الدبلوماسية التي تعارفت عليها الدول، وقد عرفت طهران كيف تسوّق الزيارة وتروجها، وكيف تغلفها بطابع الجيرة المقدسة بين البلدين، معتبرةً التدخلات الإيرانية من حقوق الجار على الجار (!)، وخطر لبعضهم أن هذا كله طبخ في مطابخ طهران، مناكفة ونكاية بالولايات المتحدة. وردّا على الزيارة اللافتة للرئيس دونالد ترامب إلى العراق، لكن الأمر يبدو، في جانبه الآخر، مناكفةً ونكايةً بالعراقيين الذين يرون في الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي، وفي سطوتها على مفاصل الدولة العراقية الرئيسية، عبر مليشياتها ورجالها النافذين، انتقاصا من سيادة بلدهم، بل يرى بعضهم فيها صيغةً أقرب إلى الاحتلال منها من أي شيء آخر.
ولا يرصد الباحث في السلوك الإيراني الخارجي، والمتأمل في علاقات إيران مع جيرانها العرب، جديدا في أحاديث الوزير ظريف، ورسائله التي أطلقها من بغداد ومدن عراقية أخرى، والتي اعتاد إطلاقها سواه من مسؤولي بلاده، لكنه هذه المرة تخلّى عما عرف به في السابق، كونه "محاورا ذكيا"، بحسب صحيفةٍ غربية، يعرف كيف يدسّ الطين في العجين، وهو الذي لم يفقد صبره وذكاءه في أثناء قيادته الاتصالات السرية بين طهران وواشنطن في ثمانينات القرن الراحل، وحتى مع إدراج إدارة بوش بلاده في "محور الشر"، وكذلك في المفاوضات التي أنتجت صفقة "الاتفاق النووي"، وإنما بدا، في زيارته، مأزوما ومتوترا، حتى في بعض لقاءاته مع سياسيين عراقيين، راهنت طهران على ولائهم لها.
ونحن الذين ندرك تماما أن أي بلدٍ لا يملك خيار عدم التعامل مع جيرانه، حتى لو تحول هذا
الجار إلى "جار سوء" تحت وطأة ظروفٍ ومتغيراتٍ، فإننا كنا نطمع من الوزير ظريف، وما زلنا، أن يؤسس لرؤيةٍ جديدةٍ في العلاقة بين شعبي العراق وإيران اللذين تربطهما "قواسم مشتركة كثيرة ومتنوعة في الدين والثقافة والسياسة والجغرافية"، تحدّث عنها هو نفسه في السابق في غير مرة، وما زلنا نأمل أن تكون سياسات "الجمهورية الإسلامية" تجاه محيطها أكثر حكمةً، خصوصا والمنطقة كلها تنام وتصحو هذه الأيام على وقع صيحات حربٍ، قد تستنزف ما بقي من موارد المنطقة وخيراتها.
وإذ نذكّر ظريف بما كان كتبه مرة إن بلاده تتمسّك بمقولة "الجار قبل الدار" التي وصفها بأنها "توصية أخلاقية ذات رؤية عميقة"، نرى أنه ليس من الجيرة المقدّسة، ولا من اللياقة الدبلوماسية، أن يسلك المسلك الذي سلكه في زيارته، على أن الحساب، في وقائع كهذه، ينبغي أن يتوجه أولا إلى المسؤولين العراقيين الذين تنكّبوا عن الرد. وكم تمنّى مخلصون للعراق، لتاريخه وحضارته وقيمه، لو انبرى وزير الخارجية العراقي، محمد الحكيم، لضيفه الذي خرج على قواعد التعامل بين الدول، فيقول له وبالفم الملآن "من فضلك، اجمع أوراقك واترك بلادنا"، يكون بذلك قد احترم موقعه ودولته وشعبه.. ولكن.
هنا تُسكب العبرات.
جرى ذلك كله على وفق برنامجٍ للزيارة، أعدته طهران، وأبلغت به الجهات العراقية مقدّما،
ولا يرصد الباحث في السلوك الإيراني الخارجي، والمتأمل في علاقات إيران مع جيرانها العرب، جديدا في أحاديث الوزير ظريف، ورسائله التي أطلقها من بغداد ومدن عراقية أخرى، والتي اعتاد إطلاقها سواه من مسؤولي بلاده، لكنه هذه المرة تخلّى عما عرف به في السابق، كونه "محاورا ذكيا"، بحسب صحيفةٍ غربية، يعرف كيف يدسّ الطين في العجين، وهو الذي لم يفقد صبره وذكاءه في أثناء قيادته الاتصالات السرية بين طهران وواشنطن في ثمانينات القرن الراحل، وحتى مع إدراج إدارة بوش بلاده في "محور الشر"، وكذلك في المفاوضات التي أنتجت صفقة "الاتفاق النووي"، وإنما بدا، في زيارته، مأزوما ومتوترا، حتى في بعض لقاءاته مع سياسيين عراقيين، راهنت طهران على ولائهم لها.
ونحن الذين ندرك تماما أن أي بلدٍ لا يملك خيار عدم التعامل مع جيرانه، حتى لو تحول هذا
وإذ نذكّر ظريف بما كان كتبه مرة إن بلاده تتمسّك بمقولة "الجار قبل الدار" التي وصفها بأنها "توصية أخلاقية ذات رؤية عميقة"، نرى أنه ليس من الجيرة المقدّسة، ولا من اللياقة الدبلوماسية، أن يسلك المسلك الذي سلكه في زيارته، على أن الحساب، في وقائع كهذه، ينبغي أن يتوجه أولا إلى المسؤولين العراقيين الذين تنكّبوا عن الرد. وكم تمنّى مخلصون للعراق، لتاريخه وحضارته وقيمه، لو انبرى وزير الخارجية العراقي، محمد الحكيم، لضيفه الذي خرج على قواعد التعامل بين الدول، فيقول له وبالفم الملآن "من فضلك، اجمع أوراقك واترك بلادنا"، يكون بذلك قد احترم موقعه ودولته وشعبه.. ولكن.
هنا تُسكب العبرات.