31 أكتوبر 2024
هل يمكن مقارنة الحرب الأهلية اللبنانية بكورونا؟
اشتاق كثيرون في لبنان للحرب الأهلية في أثناء حجرهم في منازلهم، حماية من الفيروس. قارنوا بين الإثنين، الحرب الأهلية والحجر الذي أُلزموا به. وراجت في الإعلام الأسئلة التي تنطوي على الإجابات: أن ثمّة تشابهاً بين الإثنين، الحرب الأهلية والفيروس. وعندما حلّ الثالث عشر من إبريل/ نيسان، الذكرى الخامسة والأربعون لاشتعال الحرب هذه، أخذت المقارنات ترتفع بلهجةٍ واثقة، وامتلأت مواقع التواصل بالتذكر، والتقريب بين "الحدثين"، وبحسرة أحياناً. وفي خضمّ هذه "الحالة"، وجدت صحيفة لبنانية، "الجمهورية"، أن أفضل الطرُق لتذكّر هذه الحرب، ولتقريبها مما نعيشه اليوم، هي المقارنة بين الفيروس والفلسطيني معتمر الكوفية. برسم كاريكاتوري، أراد إحداث صدمة بصرية بأن وضع الفيروس المدوّر بمحاذاة الوجه الفلسطيني بالكوفية المدوّر هو الآخر. هكذا، أدلت الصحيفة بدلوها، واستعادت مناخ الحرب، بأن كتبت تاريخها، من زاوية أحد طرفَيها: زاوية العداء للفلسطيني، المسؤول برأيها عن الحرب الأهلية. سامحةً بذلك بتغذية النزعة العنصرية المعادية للفلسطينيين، والسوريين، بتحميلهم قسطاً غالباً من الحرب، ومن الوباء، وكارثتي الحكم والاقتصاد الراهنتَين. بعدما كان الفلسطينيون أبطالنا، أضيف إليهم السوريون، فأصبح الإثنان أكباش كل محارِقنا.
ردود الفعل على الرسم الكاريكاتوري أُرغمت الصحيفة المذكورة على سحبه من موقعها. وهذا لم يلغِ الموقف بحد ذاته، المشرِّش في ضمائر لبنانية؛ يضمر وينتعش، بحسب ما يجيزه المناخ، أو المصالح، وذرائع الإفلاس والخراب. والإعلام لم يتوانَ، بعد ذلك، عن متابعة المقارنة، أخذاً بالمناخ نفسه، الذي فرضه، مكرّراً التشابهات والمشتركات؛ وكأنها من البديهيات أو المعادلات "المنطقية".
صحيحٌ أن ثمّة شبهاً بين الحرب الأهلية والعيش الكوروني، هو الشعور بالخطر.خوف وترقّب
وغموض المستقبل؛ وما يلازمهم من توسّل لطاقات التكيّف العريقة. بالبحث عن طرق العيش اليومي وتنظيمه. كلها قديمة، كلها تمرّن عليها اللبنانيون، بالحرب وبغير الحرب. عند هذا الحدّ، تقف الملامح المشتركة بين الإثنين، الحرب الأهلية وكورونا. وكل ما تبقى جديد، ابن عصره. خذْ أبسط الأمور. مثل الأصوات. في الحرب، لم يكن الصمت تاماً. ولا كانت إشارات الأصوات غامضة، "مجهولة المصدر". خلال السنوات الخمس عشرة من الحرب، كان الطفل يفهم أن أصوات الرصاص أو القذائف أو الصواريخ، أو انفجارات السيارات المفخّخة أو العبوات الناسفة .. كلها آتيةٌ من هذه الجهة أو تلك، وأن نوعها كذا أو كيت. كان فهم الأصوات من معرفة الجغرافيا: شرقية أو غربية. الجبل أو الساحل. القوات المسيحية او الإسلامية -التقدّمية.
أما أصوات "العزل المنزلي"، فلا تُصدر إلا صمتاً جنائنياً، يسمح لمختلف الطيور أن تطلق العنان لحنجرتها، بعدما أعادت لها السيارات والطائرات مجالها الحيوي. فرح محبي الطبيعة بهذا التحوّل كان عارماَ في بيروت، كما في بقية العواصم العالم المُصابة. صمت بعد ضجيج. ولكنه أيضا صمت لا يبعث أية رسالة، أو إشارة، أو معنى، أو فهم لما يدور.
روائح الحرب أيضا تختلف. سادَ في أثنائها البارود والنفايات المحروقة. تلك هي رائحة الحرب. تقابلها الآن رائحة الطبيعة التي لا تخنقها انبعاثات المازوت والعوادم. وقد توقفت هذه الأخيرة الآن، وصرتَ تتنفّس مطلع الربيع من أوّله. وعطره هذا يعود إلى ما قبل الحرب الأهلية.
الكهرباء. خلال تلك الحرب، تعرّفنا تدريجيا على بدائلها، من قنديل الكاز إلى الشمع إلى "اللوكس" إلى البطارية. واستمررنا بعد انتهائها، إذ بقيت تنقطع، هذه الكهرباء، فابتدعنا موتورات "الاشتراك" ومخصصا شهريا لها. وصار لهذا الأخير نظام، تعترف به "الدولة" وتحاول "تنظيمه"؛ في واحدةٍ من المسخرات المعتادة. والاشتراك يمشي الآن مع كورونا؛ عندما تنقطع الكهرباء، بنظامها التقنيني، أو لدى انقطاعها عشوائياً.
العلاقات بين الناس كانت كثيفة، عميقة، قبل الحرب. والوشائج لم تنقطع في أثنائها إلا بالهجرة والتهجير العنيف والفرز الطائفي للأحياء. والذين بقوا ضمن "كانتوناتهم" كانوا يحيون السهرات وحفلات المشوي والسمر منقطعة النظير. وإذا كان وقف إطلاق النار أطول من غيره، كان ذاك الاحتفاء باللقاء يتجدّد بأقوى مما سبقه، بوفرةٍ من الاشتياق والأحضان. في ظل كورونا، الأمر يختلف: عشيته، كانت هذه الوشائج قد تحلّلت، أصلاً، وارتدت لبوس "العلاقات العامة"؛ وكأنها بذلك تهيّئنا لـ"التباعد" اللاحق. شباب ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أحيوا الأواصر، وأمدّوها بالأمل والفرح. ولكن الفيروس قطع وثبتهم بضربة واحدة. فسادَ الجفاء بين الناس، بأقوى مما كان. والعلاقات الافتراضية، الصداقات الافتراضية، البَوح الافتراضي .. كلها تحوّلت إلى بدائل عما اضمحل من هذه الأواصر. في ظل كورونا، لم يعد في وسع أي كائن "اجتماعي" الاستغناء عن الافتراض بأنه يقيم صداقاتٍ، عبر مواقع التواصل. وهذه ربما توطئة لما ستكون عليه العلاقات بعد كورونا، محكومة بـ"التباعد الاجتماعي"، ولا تتحمّل أحضانا أو قبلات.
قليلاً ما ضجِرنا في الحرب الأهلية. عكس اليوم. كان الوقت عزيزاً. كنا نتابع تسارع التاريخ،
نشترك، أو نتصوّر أننا نشترك في صياغته، عبر انخراط كثيرين من مجايلينا في أحزاب لها دور في هذه الحرب. وإذ كنا مجرّد متلقّين لها، كان علينا أن نركض على الدوام؛ إما هربا، أو تهجيراً، أو قلقاً على القريبين من النار، أو بحثاً عن ماء، أو بنزين، أو خبز .. كأننا في رِباط. بسلاح أو من دونه. بانحيازات أو من دونها. أما اليوم، فجمود، في البيت، ووقت منبسط، وضجر. وتسلٍّ بالطعام. وكسل من نوع جديد. لا مبرّر له. ولا معنى. شيءٌ يشبه تكوّم الجسم على بعضه وانضغاطه على نفسه بقوةٍ من رصاص، فتختلط الأيادي بالأرجل، ويسيح الدماغ وتصبح أية حركة صغيرة ملحّة تحتاج إلى حوافز، أو إرادة أو خيال .. استباقاً، على الأقل، للضرر الناجم من كثرة القعود، وكثرة الضجّر من التسلّي.
الأمل. في الحرب كان ثمّة أمل مستمر. يرفع المعاناة منها إلى مصاف الثمن الذي ندفعه للعودة إلى "الدولة" بعد انتهائها. وكل وقف إطلاق نار كانت تليه دعوات ومبادرات قوية للعودة بأسرع ما يمكن إلى السابق، إلى "الوضع الطبيعي"، إلى "الدولة". بعد ثلاثة أعوام من اندلاع الحرب، صدر كتاب للشاعر اللبناني الراحل، محمد العبدالله، عنوانه "حبيبتي الدولة". ومضمونه رصد ساخر لأوجه العبثية في الحرب. وأنشودة رجاء للخلاص منها، مع "دولةٍ" مكلّلة بالغار. ليس معروفاً كم لاقى من ذيوع، هذا الكتاب. لكن رؤيته للأمل كانت مشتركة بينه وبين الذين قرأوه، أو لم يقرأوا. أما في ظل كورونا، فنحن محكومون بما يسمّى "دولة"، تسمية فقط. والباقي عصابات وطغاة صغار. ليس ثمّة أمل بـ"دولة"، كما كان يحلم اللبنانيون في الحرب. ثورة 17 تشرين رفعت آخر الأحجية عن الممْسكين بزمامها. لا أمل واحدا من هذه الناحية. إنما خشية وذعر، مما بعد نهاية حقبة الفيروس. من أهوال الخراب المنتظَر. يرعبنا الجزء الضئيل مما نحن قادرون على تخيّله. يعذّبنا الحجْر المنزلي، ويرمي بثقله على يومياتنا. ولكننا نكاد لا نريد له أن ينتهي، عكس الحرب الأهلية... لما تحبل خواتمه من مصائب.
أخيراً، وفيما انتهت الحرب بضخّ أموال على لبنان أعادت بناء عمرانه بسرعة قياسية، فان نهاية كورونا لن تجد ذاك السخاء من دول "الأسرة الدولية"، المثقلة هي الأخرى بالديون والإفلاسات والركود والتضخم والبطالة. معطوفٌ عليها انعدام تام للثقة عند هذه "الأسرة" بالطرق التي ستسلكها هذه الأموال الممنوحة لحكم العصابات والطغاة الصغار.
صحيحٌ أن ثمّة شبهاً بين الحرب الأهلية والعيش الكوروني، هو الشعور بالخطر.خوف وترقّب
أما أصوات "العزل المنزلي"، فلا تُصدر إلا صمتاً جنائنياً، يسمح لمختلف الطيور أن تطلق العنان لحنجرتها، بعدما أعادت لها السيارات والطائرات مجالها الحيوي. فرح محبي الطبيعة بهذا التحوّل كان عارماَ في بيروت، كما في بقية العواصم العالم المُصابة. صمت بعد ضجيج. ولكنه أيضا صمت لا يبعث أية رسالة، أو إشارة، أو معنى، أو فهم لما يدور.
روائح الحرب أيضا تختلف. سادَ في أثنائها البارود والنفايات المحروقة. تلك هي رائحة الحرب. تقابلها الآن رائحة الطبيعة التي لا تخنقها انبعاثات المازوت والعوادم. وقد توقفت هذه الأخيرة الآن، وصرتَ تتنفّس مطلع الربيع من أوّله. وعطره هذا يعود إلى ما قبل الحرب الأهلية.
الكهرباء. خلال تلك الحرب، تعرّفنا تدريجيا على بدائلها، من قنديل الكاز إلى الشمع إلى "اللوكس" إلى البطارية. واستمررنا بعد انتهائها، إذ بقيت تنقطع، هذه الكهرباء، فابتدعنا موتورات "الاشتراك" ومخصصا شهريا لها. وصار لهذا الأخير نظام، تعترف به "الدولة" وتحاول "تنظيمه"؛ في واحدةٍ من المسخرات المعتادة. والاشتراك يمشي الآن مع كورونا؛ عندما تنقطع الكهرباء، بنظامها التقنيني، أو لدى انقطاعها عشوائياً.
العلاقات بين الناس كانت كثيفة، عميقة، قبل الحرب. والوشائج لم تنقطع في أثنائها إلا بالهجرة والتهجير العنيف والفرز الطائفي للأحياء. والذين بقوا ضمن "كانتوناتهم" كانوا يحيون السهرات وحفلات المشوي والسمر منقطعة النظير. وإذا كان وقف إطلاق النار أطول من غيره، كان ذاك الاحتفاء باللقاء يتجدّد بأقوى مما سبقه، بوفرةٍ من الاشتياق والأحضان. في ظل كورونا، الأمر يختلف: عشيته، كانت هذه الوشائج قد تحلّلت، أصلاً، وارتدت لبوس "العلاقات العامة"؛ وكأنها بذلك تهيّئنا لـ"التباعد" اللاحق. شباب ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أحيوا الأواصر، وأمدّوها بالأمل والفرح. ولكن الفيروس قطع وثبتهم بضربة واحدة. فسادَ الجفاء بين الناس، بأقوى مما كان. والعلاقات الافتراضية، الصداقات الافتراضية، البَوح الافتراضي .. كلها تحوّلت إلى بدائل عما اضمحل من هذه الأواصر. في ظل كورونا، لم يعد في وسع أي كائن "اجتماعي" الاستغناء عن الافتراض بأنه يقيم صداقاتٍ، عبر مواقع التواصل. وهذه ربما توطئة لما ستكون عليه العلاقات بعد كورونا، محكومة بـ"التباعد الاجتماعي"، ولا تتحمّل أحضانا أو قبلات.
قليلاً ما ضجِرنا في الحرب الأهلية. عكس اليوم. كان الوقت عزيزاً. كنا نتابع تسارع التاريخ،
الأمل. في الحرب كان ثمّة أمل مستمر. يرفع المعاناة منها إلى مصاف الثمن الذي ندفعه للعودة إلى "الدولة" بعد انتهائها. وكل وقف إطلاق نار كانت تليه دعوات ومبادرات قوية للعودة بأسرع ما يمكن إلى السابق، إلى "الوضع الطبيعي"، إلى "الدولة". بعد ثلاثة أعوام من اندلاع الحرب، صدر كتاب للشاعر اللبناني الراحل، محمد العبدالله، عنوانه "حبيبتي الدولة". ومضمونه رصد ساخر لأوجه العبثية في الحرب. وأنشودة رجاء للخلاص منها، مع "دولةٍ" مكلّلة بالغار. ليس معروفاً كم لاقى من ذيوع، هذا الكتاب. لكن رؤيته للأمل كانت مشتركة بينه وبين الذين قرأوه، أو لم يقرأوا. أما في ظل كورونا، فنحن محكومون بما يسمّى "دولة"، تسمية فقط. والباقي عصابات وطغاة صغار. ليس ثمّة أمل بـ"دولة"، كما كان يحلم اللبنانيون في الحرب. ثورة 17 تشرين رفعت آخر الأحجية عن الممْسكين بزمامها. لا أمل واحدا من هذه الناحية. إنما خشية وذعر، مما بعد نهاية حقبة الفيروس. من أهوال الخراب المنتظَر. يرعبنا الجزء الضئيل مما نحن قادرون على تخيّله. يعذّبنا الحجْر المنزلي، ويرمي بثقله على يومياتنا. ولكننا نكاد لا نريد له أن ينتهي، عكس الحرب الأهلية... لما تحبل خواتمه من مصائب.
أخيراً، وفيما انتهت الحرب بضخّ أموال على لبنان أعادت بناء عمرانه بسرعة قياسية، فان نهاية كورونا لن تجد ذاك السخاء من دول "الأسرة الدولية"، المثقلة هي الأخرى بالديون والإفلاسات والركود والتضخم والبطالة. معطوفٌ عليها انعدام تام للثقة عند هذه "الأسرة" بالطرق التي ستسلكها هذه الأموال الممنوحة لحكم العصابات والطغاة الصغار.