وبينما تنتظر بعض الأمهات انتهاء الأجازة الصيفية بفارغ الصبر للتخلّص من همّ الأطفال، تسعى أخريات لحياة مختلفة مع أطفال بلا مدارس، إيماناً منهن بمقولة الروائي الأميركي جورج سانتايانا "الطفل الذي اقتصر تعليمه على المدارس هو طفل لم يتعلّم بعد"، أضف إلى ذلك ما يفرضه واقع التعليم النظامي في العالم العربي من سلبيات وعيوب، واعتماده على مجرد الحفظ والتلقين وإهمال المهارات والسمات الشخصية للأطفال وتحويلهم إلى نُسخ موحّدة تفكر بالطريقة ذاتها. ومن هنا بدأت فكرة التعليم المنزلي تفرض نفسها في البلدان العربية، وإن كانت على استحياء لعدم وجود تشريعات وقوانين تنظمه.
نظرة تاريخية
التعليم المنزلي ليس جديداً، بل معمول به في الولايات المتحدة الأميركية منذ الستينيات، عندما وضع بعض الكتّاب والباحثين يدهم على عيوب التعليم مطالبين بضرورة إصلاحه، أمثال جون هولت ودوروثي وريمون مور. ووفق مايلتون غايثر مؤلف كتاب تاريخ التعليم المنزلي، "كان من السائد ألا يثق الشعب الأميركي في الحكومة، ولذا كان متلقي هذا التعليم من مناصري ثقافة معاكسة ترفض أن تفرض الحكومة منهجاً موحداً على التلاميذ، أو رجال دين يخشون علمنة التعليم".
ووفق إحصائيات المعهد الوطني للأبحاث الخاصة بالتعليم المنزلي في أميركا، فإن عدد التلاميذ المنتظمين في التعليم المنزلي وصل إلى 2.2 مليون طفل في عام 2010 مع تزايد النسبة بمعدل 7% إلى 15% سنوياً بسبب عيوب التعليم الرسمي وعدم الرضا عنه.
وإذا كان التعليم المنزلي هو تعليم قانوني في بعض الدول كالولايات المتحدة بجميع ولاياتها، وكذلك نيوزيلندا وكندا وإنجلترا، فقد جرّمته دول أخرى مثل ألمانيا والسويد، بل وتفرض عقوبات قاسية على من يفكر فيه.
اقرأ أيضا: تعليم الـ 3 ملايين رأس جاموس!
أما في دول الوطن العربي، فلم تُبِحه الحكومات أو تجرّمه وإنما تجاهلته تماماً، وبقيت المراجع والمقالات والخبرات الأجنبية مرجعاً، وبالتالي لا توجد أي إحصاءات رسمية بين أيدينا عن التعليم المنزلي في العالم العربي.
"ابن خلدون"
بداية، وبإجراء بحث باللغة العربية على شبكة الإنترنت، لم يظهر لنا سوى مركز وحيد متخصص وأكاديمي لتقديم الاستشارات الخاصة بالتعليم المنزلي وهو مركز "ابن خلدون" الموجود في اسطنبول بتركيا، والذي تم إشهاره منذ ستة أشهر في الولايات المتحدة من أجل تسهيل الحصول على الاعتمادات التعليمية المختلفة. أسفرت نتيجة البحث أيضاً عن وجود بضع مدونات وصفحات بجهود ذاتية على مواقع التواصل الاجتماعي لنقل الخبرات بين راغبي التعليم المنزلي وتكوين شبكات اجتماعية في ما بينهم.
وتضيف الطويل أن الطفل إذا تعلّم القراءة والكتابة خلال عامين من الدراسة المركزة، لم تعد به حاجة إلى المدارس العامة على الإطلاق، فبمساعدة أهاليهم وإرشادهم يمكنهم التقدم في التعليم والدراسة، مقتبسة ما قاله الكاتب جون جاتو في كتابه "Dumbing Us Down"، "إن معظم الأطفال يمكنهم تعلّم القراءة والكتابة والعمليات الحسابية الأساسية في 100 ساعة فحسب من الدراسة المركزة".
وتذكر الطويل أن مؤسسة ابن خلدون قائمة من أجل دعم التعليم المنزلي في العالم العربي وتقديم الدعم المختلف للآباء والأطفال المتعلمين منزلياً، وتشير إلى أبرز الأدوار التي تقوم بها المؤسسة من الدعم المعلوماتي والأكاديمي والاستشارات التربوية والأكاديمية وإنشاء مجتمع إلكتروني للتشبيك بين المتعلمين منزلياً.
وتوضح الطويل أن التعليم المنزلي معمول به منذ ما يزيد عن 70 عاماً، مقتبسة ما قاله محلل السياسة التعليمية ومؤلف كتاب "دولة الرفاهية: لا رحمة للطبقة المتوسطة"، جويل تورتيل: "عندما تجبر الأطفال على دراسة مناهج تصيبهم بالملل، فإنهم يتعلمون فقط أن يكرهوا التعليم"، موضحة أن بنيامين فرانكلين وجورج واشنطن وتوماس أديسون ومارك توين، قد ذهب كل منهم إلى المدرسة الرسمية لمدة أقل من عامين اثنين فحسب، بينما تعلموا جميعاً تعليماً منزلياً على أيدي آبائهم، أو تعلموا ذاتياً بعد أن تعلموا القراءة.
جهود ذاتية
إلى جانب مؤسسة ابن خلدون، ظهرت العديد من الجهود الذاتية لتقديم الدعم لراغبي التعليم المنزلي ومنها صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل "يلا نعلّم ولادنا برة حدود المدرسة"، و"التعليم المنزلي Homeschooling"، وغيرها، كما ظهرت مبادرات أخرى في صورة مدونات ومنتديات. وفي المجمل، فإن أصحاب هذه المبادرات في الغالب قد اختاروا التعليم المنزلي لأولادهم ويحاولون مشاركة غيرهم لتعميم الفائدة.
اقرأ أيضا: إدماج الأهل في التعليم.. السهل الممتنع
تقول مروة الحبشي، استشارية تربية الطفل ونُظُم التعليم ومؤسسة مدونة "الدنيا ريتاج" لدعم التعليم المنزلي: لأنني خريجة رياض أطفال ومن أوائل دفعتي، بدأت أبحث لابنتي عن مدرسة تطبّق ما تعلّمته في رياض الأطفال، وكان هذا ضرباً من الخيال. لذا بدأت أبحث عن بدائل للمدارس وهل يمكنني كأم إضافة لكوني متخصصة في التربية والتعليم استبدال المدرسة بأخرى في بيتي لأتابع أطفالي بنفسي وأقيّمهم بالطريقة التي تناسبهم! ومن هنا بدأت رحلتي مع التعليم المنزلي.
وتتابع الحبشي: حاولت ومجموعة من المهتمين مساعدة الأهالي بتقديم أفلام وثائقية عن تأثير المدارس مقارنة بالتعليم الحر، وتنظيم لقاءات عن التعليم المنزلي، كما أسسنا فريق "نهج" لدعم الأسرة والطفل والاستشارات التربوية، ولدينا فريق لكتابة المقالات وكذلك ترجمة مقالات أجنبية متعلقة بهذا المجال.
على صفحتها الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، كتبت لبنى، إحدى الأمهات التي اختارت تعليماً منزلياً لطفلتها: "اليوم أسحب أوراق مارية من المدرسة بعد مرور عام على قرار التعليم المنزلي.. الموضوع له رهبة، ولكنها رهبة تجعلك تأخذ نفساً عميقاً وتبتسم لما ستجلبه التجربة والحياة".
قد تكون لبنى استمدّت قوتها من مرور عام كامل على مشاركة طفلتها بالتعليم المنزلي، بينما هناك أخريات يئسن من عيوب ومشكلات المدارس ويبغين تعليماً لامدرسياً. وتقف العديد من التساؤلات حاجزاً يؤخر الإقدام على مثل هذه الخطوة.
وفي هذا السياق، توضح أروى الطويل أن التعليم المنزلي مسؤولية والتزام، لا يمكن القول بسهولة وصعوبة الرحلة، بل يمكن القول بأننا نعد من يتخذ هذا القرار برحلة سعيدة وجميلة مع أطفاله، مع العلم أن القرار ليس نهائياً ويمكن التراجع عنه، فكثير من الأسر التي أدخلت أولادها التعليم المنزلي وبسبب ظرف أو آخر أعادتهم للمدرسة لعام أو أقل.
وعن الدرجات العلمية للآباء ومؤهلاتهم الدراسية، تقول: كل المؤهلات المطلوبة، ببساطة أن يحب الآباء أبناءهم ويظهروا نحوهم التزاماً حقيقياً بتربيتهم ورغبة في تعليمهم وعدم إسناد هذه المهمة لشخص آخر، وما عدا ذلك يمكن تعلّمه بسهولة، فعالم الإنترنت مفتوح والموارد متاحة، والتعليم المنزلي مناسب لجميع طبقات المجتمع وجميع المؤهلات فهو تعليم مرن ويطوّع حسب البيئة والمجتمع.
أنماط ومناهج
وتشرح الطويل: هناك أنماط مختلفة في المناهج كالنمط التقليدي، وفيه توفر الأسرة لطفلها الكتب المدرسية وكتب الأنشطة والتعامل معها بشكل مرن يعتمد على التعلّم وليس التعليم حتى موعد الامتحان، والنمط الكلاسيكي ويركز على "تعلّم كيفية التفكير"، وفيه يُقسم الأطفال إلى ثلاث مجموعات حسب أعمارهم، وأسلوب شارلوت ميسون ويعتمد على الأدب والكتب الحية، ودراسة الوحدات، حيث يتم تحديد موضوع واحد للدراسة ثم تجمع كل المواد الدراسية حول الموضوع، والنمط الأخير هو اللامدرسة وعادة لا يكون هناك منهج أو خطة محددة وتُترك الحرية للطفل في تعلّم ما يريده، وهو ما يُخرّج أطفالاً متفردين بذواتهم.
اقرأ أيضا: المناهج تناقض الواقع.. وعليك أن تتصرف
وفي ما يخص الشهادات باعتبارها أوراقاً أساسية في بلادنا تتحدث عن حاملها، تشير الطويل إلى عدم الرغبة في تقييد عقول المتعلمين منزلياً بفكرة الشهادات، وتعرض حلولاً منها الالتحاق بمدرسة بشكل صوري، وتواصل: تفضّل مؤسسة "ابن خلدون" الالتحاق بالامتحانات الأجنبية المعادِلة لشهادات إتمام التعليم في أميركا والدول الأوروبية، وهي مخصصة للمتعلمين منزلياً،
كما يمكن للناجح في هذه الامتحانات طلب معادلة شهادته بشهادة التعليم الثانوي، وقد بدأت بعض مؤسسات هذه الامتحانات تقدم خدماتها للطلاب الأجانب عن طريق فروع للامتحان في الدول العربية. ويستطيع الدارس أيضاً الالتحاق بمنهج أجنبي مخصص للتعليم المنزلي واجتياز درجاته والحصول على الشهادات الخاصة به، ويوجد العديد من المناهج المعتمدة، مثل كالفرت وأوك ميداو.
المقومات المناسبة
وعلى الجانب الآخر، ترى المستشارة مروة الحبشي أن التعلیم المنزلي یحتاج للعدید من المقومات التي لا تتوافر في الكثیر من الآباء، كسعة الصدر والصبر إلى أقصى حد على أسئلة الطفل واستكشافاته. ولهذا وقبل الإقدام على اتخاذ القرار، لا بد للوالدین من القراءة والاطلاع ودراسة احتیاجات الطفل ومتطلبات نموه النفسي والعقلي والجسماني، والتدرب على الأنشطة وتنفيذها، وكذلك تحدید أهداف تعلّم النشاط وأهداف السنة الدراسیة بأكملها وكیفیة اختیار المنهج المناسب وطريقة تقدیمه للطفل.
وبحسب الحبشي، فإن كل ما سبق وغیره یجعل الطریق إلى انتشار التعلیم المنزلي في مجتمعاتنا العربیة طویلاً للغایة، لأنه یعني استنزاف ما یوازي 80% على الأقل من وقت الأسرة لتعلیم الأطفال، وهو لا یزال صعب التخیّل بالنسبة لكثيرين، كما أن الوعي باحتیاجات الطفل ومتطلباته لا یزال ضعیفاً لدى العدید من الآباء.
التعليم المنزلي لا يعني وضع الطفل في "قمقم" أو حبسه بالمنزل، بل على العكس، الانطلاق في العالم الحقيقي والتعلّم منه، هكذا لخّصت أروى الطويل، وتضيف: بهذه الطريقة ستكون له ذكريات ممتعة أفضل بكثير من ذكرياتنا في المدارس العادية. سيتوفر له الاحتكاك الحقيقي بالعالم وليس الاحتكاك الصوري الطبقي المزيّف. التعليم المنزلي سيصنع أطفالاً ذوي أرواح حرة منطلقة متميّزة تحب أن تتعلّم، لأنه شغفها الحقيقي بعيداً عن إنتاج قوالب نمطية.
اقرأ أيضا:الدراسة في الخارج "حلم" يراود الطلبة العرب
وترى وفاء رفعت البسيوني، الباحثة التربوية ومؤلفة كتاب "مصر بلا مدارس"، أن هناك من يعتقد بأن التعليم المنزلي سيصيب الطفل بالوحدة ويجعله طفلاً غير قادر على الاندماج في المجتمع، ولكن هذا توقع غير صحيح بالمرة، فالمفترض أن تكون هناك شبكة إلكترونية تضم كل من اختاروا فكرة التعليم المنزلي، وتكون هناك لقاءات أسبوعية منظمة تعد من قبل جهة تتولّى شؤون التعليم المنزلي لمتابعتهم، وبالتالي يكون للأم الحرية في اختيار البيئة المناسبة لابنها والتعرّف على مزيد من الأصدقاء، حتى أن الدراسات العالمية أثبتت أن أطفال التعليم المنزلي أكثر قدرة على الاختلاط والاندماج الاجتماعي وأكثر تفوقاً مقارنة بأقرانهم في التعليم المدرسي.
التعليم المنزلي والمواطنة
وعلى النقيض يرفض الخبير التربوي كمال مغيث هذا النوع المتداول من التعليم المنزلي, وينتقد حرية كل فرد في اختيار مناهج تؤصل لقيم ومعتقدات مجتمعه الضيق من الأهل ولا تؤهله للتعامل مع المجتمع ككل.
ويضيف: حتى يستقيم التعليم المنزلي ويأتي بثماره في الدول العربية لابد وأن يندرج تحت صيغة واضحة ومحددة وأن يلتزم بمناهج ومقررات أساسية تحددها الدولة يضاف إليها مناهج حرة تناسب تطلعات وهوايات الطفل، وبالتالي تجنب تفكك المجتمع عندما تذهب كل مجموعة تعتنق أفكار معينة لاتجاه ومنحى تعليمي معين تحبس أطفالها فيه.
ويتابع مغيث: إذا وصلنا بالتعليم المنزلي لهذا الشكل يكون الطفل قد استفاد من التكنولوجيا بعدم الذهاب إلى المدرسة إضافة إلى توفير وقت للاطلاع والأنشطة المختلفة، وقبل اللهث وراء التعليم المنزلي باعتباره موضة تحاول بعض الأسر التباهي بها، علينا أن نعلم جيدا أن التعليم الرسمي، رغم اتفاقنا على ما به من عيوب جمة في عالمنا العربي، ليس مجرد حفنة من العلوم والرياضيات وإنما عامل أساسي في اكتساب الطفل لصفة المواطنة من خلال مشاركته مجموعة من الأطفال في الفصل من نفس سنه وينتمون لثقافات وبيئات اجتماعية وديانات مختلفة وبالتالي يدرك قيمة التعايش ويؤمن بالاختلاف وهو ما يفتقده التعليم المنزلي وان نظم جماعات التعليم المنزلي لرحلات ميدانية واستكشافية مشتركة.
ويشير مغيث أن الدول العربية تعرف حجم انتشار التعليم المنزلي والمتوقع زيادته بشكل واضح في السنوات المقبلة ومع ذلك تغمض عيناها وتتغافل عنه، فدول العالم النامي تعتبر كل طفل في العملية التعليمية بمثابة "مشكلة" وفي ظل حال التعليم وتدهوره وقلة الإنفاق عليه, تُصدر الحكومات رسالة مفادها أنه كلما كان الطفل خارج حدود المدرسة كلما كان أفضل وراحة لها، ومن هنا لا أتوقع تشريع للتعليم المنزلي في الوطن العربي لان الدول العربية ليست في حاجة إلى مزيد من الضغط فيما يخص العملية التعليمية.
بينما تطالب البسيوني بضرورة وضع تشريع خاص بالتعليم المنزلي، ووضعه تحت مجموعة من الضوابط والقوانين وأن تشرف عليه مؤسسات تربوية واجتماعية وإدارية تابعة للحكومة حتى لا يستخدم كسلاح ضد الدولة، وتشير البسيوني أنه نظرا لعدم وجود تشريع للتعليم المنزلي، فقد ظهر نوعين من هذا التعليم، أحدهما هي مجموعات لم يرضها التعليم في المدارس وبالتالي تقوم بتسجيل أطفالها في إحدى المدارس ثم تلجأ إلى التحايل باسم "الشهادات المرضي" أو مساومة المدرسة بألا يذهب الطفل إلا أيام الامتحانات فقط وبالتالي هؤلاء يمتلكون شهادات نجاح عام بعام.
وهناك نوع آخر لم ينتشر بشكل واضح في العالم العربي، وفيه لا يلتحق الطفل بأي من المدارس ويختار الوالدين المنهج الدراسي المناسب لعمر طفلهم ومستواه العقلي ويدعموه بالعديد من الثقافات حتى يصل إلى سن الالتحاق بالجامعة وعندها يخضع لاختبارات الالتحاق بالجامعة في أي من الجامعات الأجنبية.
اقرأ أيضا:طلبة الصين.. لا "اختبارات" بعد اليوم