هل وعد نابليون اليهود وأعلن إسلامه؟

30 نوفمبر 2014

لوحة نابليون في مصر لـِ(ستيفانتي إجناريز)

+ الخط -

النقاش الذي دار، ويدور، بين الزميلين، صقر أبو فخر ومأمون كيوان، في ما يتعلق بالإمبراطور الفرنسي، نابليون بونابرت، في "العربي الجديد"، والذي تركز على سؤال: هل أعلن الامبراطور الفرنسي وعداً لليهود، بمساعدتهم على العودة إلى "أرض آبائهم فلسطين"، بحسب أوساط يهودية وغير يهودية، قبل توجه حملته في محاولة لاحتلال الشرق في عام 1799، ومحاولة تقويض أركان الامبراطورية العثمانية؟ كما أن ثمة سؤالاً آخر من نوع السؤال السابق: هل أعلن الامبراطور الفرنسي إسلامه، بعد احتلاله أجزاء مهمة من مصر، بعد تغلبه على بقايا دولة المماليك التي تم دحرها إلى الجنوب، في منطقة الصعيد؟
ما زال السؤالان يترددان في أوساط عدة سياسية وثقافية وتاريخية، وما زال الاختلاف حول الإجابات قائماً ومستمراً: جماعة ترجح صدور "الوعد" وإعلان الامبراطور إسلامه، وجماعة أخرى تنفي نفياً قاطعاً حصول الأمرين؛ كون ذلك لم يوثق في وثائق مكتوبة وممهورة بختم الامبراطور وتوقيعه. ولم يتم الوصول، حتى الآن، إلى وثائق لدى أي جهة رسمية موثوقة، تفيد بتأكيد هذا الاحتمال، بل إن صقر أبو فخر في مقاله "وعد نابليون لليهود خرافة" في "العربي الجديد" (13/11/2014) أكد أن الأمر ما هو إلا خرافة، كغيره من الخرافات.
ما أجتهد به في هذا المجال يتعلق بإيراد وقائع، وطرح تساؤلات واستنتاجات، آمل أن تثري النقاش. ففي ما يتعلق بوعد نابليون اليهود بإعادتهم إلى الأرض الموعودة لهم، بحسب التوراة، فإن الخلاف ما زال مستمراً في ما يتعلق بإطلاقه للوعد، أو في عدم إعلانه، علماً أن أبو فخر أورد في مقاله نصاً ورد في صحيفة "مونيتور يونيفرسال" في 22/5/ 1799، جاء فيه "بدأت خرافة إعلان بونابرت، حينما عثر المؤرخ الفرنسي اليهودي بول جيفنسكي على خبر من خمسة سطور فقط في الصحيفة المشار إليها سابقاً، وفي التاريخ المشار إليه، أي في 22/5/1799، جاء فيه "أصدر بونابرت بياناً دعا فيه جميع يهود آسيا وأفريقيا إلى الانضمام إلى صفوفه، وتحت رايته لاستعادة القدس القديمة، وقد أمد بونابرت عدداً من اليهود بالسلاح، وهددت كتائبهم حلب وضواحي دمشق من أنصار الباب العالي".
لننس النص المتعلق بكتائب من اليهود وصلت إلى ضواحي حلب ودمشق! كون ذلك لا يمت إلى أي حقيقة تاريخية بأي صلة، وحتى جيش نابليون نفسه لم يصل إلى حلب أو دمشق أبداً، ولنركز على الكلام الآخر، والذي أعيد بأنه ورد في مقال صقر أبو فخر، والمتعلق بإصدار بونابرت بياناً فيه دعوة لانضمام يهود آسيا وأفريقيا إليه، وبالطبع يهود أوروبا أيضاً. من أجل ماذا؟ من أجل الانضمام إلى صفوفه، وتحت رايته لاستعادة القدس القديمة!! وهذا الكلام محدد في مكان النشر وفي تاريخ نشره، أي في تاريخ قريب من انطلاق حملة نابليون إلى الشرق!
إذن، لماذا الاستغراب و"تخريف" الاستنتاج الذي يفيد بأن "وعداً" شفهياً، أو غير شفهي، أطلقه نابليون بونابرت لليهود، بإعادتهم إلى فلسطين؟! إن عدم وجود أي وثيقة رسمية تتضمن محتويات "الوعد" لا يعني مطلقاً أن "الوعد" لم يتم إطلاقه شفهياً، وبشكل غير رسمي. وقد أوجد هذا "الوعد"، حتى في صيغته الشفهية، والذي أطلقه ونشره وردده جهاز إعلامي على درجة عالية من الدهاء المدروس، والمتمرس في عمله، ليحقق، استنتاجاً، مجموعة من الديناميات والتداعيات، بالغة الأهمية، في المجتمع الفرنسي، منها على سبيل المثال:
كسب اليهود إلى صفه بشكل عام، خصوصاً أنه خاطب في الوعد الشفهي يهود آسيا وأفريقيا، وبطبيعة الحال، يهود أوروبا، وهذا وفر لبونابرت تأييداً معنوياً ومادياً معتبراً، كما ووفر له مدداً من الرجال والإمكانات غير قليل. وبما أن أوساطاً معينة لدى بعض النخب الدينية المسيحية الفرنسية، وغير الفرنسية، كانت ولا زالت تتبنى تأييداً وثيقاً لليهود، وهذه الجماعات أطلق عليها اسم "الصهيونية غير اليهودية"، وهي تؤمن بأن مسيحيتها ما هي إلا استمرار بصورة ما لليهودية. لذلك، كسب "وعد" بونابرت الشفهي تأييد هذه المجموعات. ويمكن العودة، في هذا المجال، إلى كتاب "في الأدب الصهيوني" لغسان كنفاني، وكتاب "الصهيونية غير اليهودية" لريجينا الشريف، وكتابات عبد الوهاب المسيري في موسوعته عن الصهيونية واليهودية، وكتابيه "الأيديولوجية الصهيونية"، كما ويمكن العودة إلى كتابات للدبلوماسي الإماراتي السابق، يوسف الحسن، عن "الصهيونية غير اليهودية" أيضاً.
على الجانب الآخر المستاء من اليهود، كسب "الوعد" تأييد مجموعات من المجتمع الفرنسي كانت متضررة من ممارسات بيوت الربا اليهودية، والتي كانت لها تأثيراتها في أسواق المال والاقتصاد الفرنسيين. لذلك، كثيراً ما كانت مصادمات واشتباكات تندلع بين المتمولين اليهود العاملين في الربا وشرائح من الاقطاعيين الفرنسيين وأصحاب الرأسمال الصناعي الناشئ، ومقترضين آخرين من أفراد الطبقة الوسطى، كانوا يواجهون مشكلات في سداد ديونهم، بسبب الفوائد الفاحشة التي كان يفرضها بعض تجار اليهود. لذلك، وجدت هذه الشرائح من المجتمع الفرنسي في "الوعد"، حتى ولو كان شفهياً، بارقة أملاً في التخلص من أعداد من اليهود الذين ألّبوا جمهوراً واسعاً ضدهم في البلدان الأوروبية، وغيرها. ومسرحية "تاجر البندقية" لوليم شكسبير، مثلاً، ترجمة فنية معبّرة عن واقع كان سائداً في تلك المجتمعات. وشايلوك المرابي في المسرحية وجشعه وطمعه واحتقاره الكينونة الإنسانية تعبير فني يختزل وجوداً واقعياً، كانت تعاني منه المجتمعات الأوروبية. لذا، فإن "يعد" بونابرت اليهود بإعادتهم إلى ما تعتقد به الصهيونية اليهودية، والصهيونية غير اليهودية، إلى بلادها فلسطين، في معنى من معانيه، يؤدي إلى التخلص منهم وإبعادهم. لذلك، أيدت هذه المجموعات "وعد" بونابرت الشفهي، أو غير الشفهي، لليهود، وأعلنت انحيازها إلى خططه وأهدافه في ما يتعلق بهذا الأمر.

وفي ما يتعلق بإعلان نابليون اعتناقه الإسلام بعد احتلاله مصر، أو إعلان جهازه الإعلامي هذا الأمر، فذلك، أيضاً، لم يتم كشفه واكتشافه من ضمن وثيقة رسمية، وإنما هو من نوع إشاعات ترددت في حينه، تحقيقاً لغايات عدة، برع الجهاز الإعلامي التابع لنابليون في إطلاقها ونشرها. من ذلك: محاولة إسكات الغضب الشعبي المصري الذي لم يرض عن الاحتلال الفرنسي لمصر. ومحاولة إرضاء رجال الدين المسلمين، وخصوصاً مشايخ الأزهر، وإسكات تحريضاتهم وخطاباتهم المعادية للغزو الفرنسي لمصر، حيث اعتبر بعضهم أن الغزو الجديد ربما كان من نوع الغزو الصليبي الفرنجي السابق، أو محاولات تجديدية له.

ومن أهداف الإعلان، أيضاً، في التهدئة والإرضاء، توفير أجواء مناسبة لمتابعة نابليون حملته على بر الشام، في محاولة للوصول إلى الآستانة، عاصمة الإمبراطورية العثمانية، وفي الوقت نفسه، الإيحاء للحاميات العثمانية التي ستواجهه بأنه، أي نابليون، يعتنق دينها. لذلك، لا داعي للمقاومة والحرب! هذه بعض أهداف أراد الامبراطور الفرنسي تحقيقها، وهي، بطبيعة الحال، من الاستنتاجات الافتراضية الاجتهادية. فما هي الوقائع التاريخية اللاحقة التي تم تسجيلها عن سير الحملة في الساحل الفلسطيني؟
استطاعت الحملة احتلال مواقع وموانئ على الساحل الفلسطيني، إلا أنه، وعندما وصل إلى ميناء يافا، اصطدم بمقاومة شرسة، تم قمعها بشدة ووحشية، وأمر بذبح من تبقوا من حاميتها (نحو أربعة آلاف جندي) بالسلاح الأبيض، توفيراً للذخيرة على ما يبدو! غير عابئ بالقيم الأخلاقية والدينية والإنسانية، ولتنكشف ادعاءاته باعتناق الإسلام بأجلى صورة، في حين تم ارتكاب خطأ مميت في تنفيذ المجزرة، تمثل في ترك جثث الجنود القتلى في العراء أياماً، ما سهل لمرض "الطاعون" الانتشار والتغلغل بين جنوده أنفسهم، ليأخذوا بالتساقط صرعى فرادى وجماعات، فيصل كثيرون منهم منهكين ومرضى إلى أسوار عكا التي حصنها واليها أحمد باشا الجزار تحصيناً جيداً، وحشد للمعركة احتياجات وإمكانات مناسبة، كما كان لمساعدة الأسطولين، البريطاني والعثماني، الأثر الكبير في صمود المدينة، وإنهاك الجيش الفرنسي والاستمرار في مناوشته، منذ خرج من مصر وصولاً إلى عكا.
عند ذلك وبعد طول حصار، أدرك الامبراطور الفرنسي، وأركان حملته، أن الحملة فشلت في تحقيق أهدافها، فتسلل عائداً إلى مصر، وهناك عين الجنرال كليبر مسؤولاً عن بقايا الحملة، وتسلل من جديد عائداً إلى فرنسا، بعد أن نجا من متابعات البحرية البريطانية. كذلك لم يسلم كليبر من طعنات الثائر سليمان الحلبي فسقط صريعاً، ولتسقط، إثر ذلك، طموحات احتلال كامل الامبراطورية العثمانية، والتي كانت قوى أوروبية عديدة، تسعى إلى تحقيقها، أيضاً، ليتم تأجيل ذلك إلى ما بعد نحو مائة عام، من خلال اتفاق سايكس – بيكو، وما آلت إليه الحرب العالمية الأولى من نتائج، ولتنال فرنسا حصتها المحددة والمحدودة من ذلك الاتفاق، وليس على كامل مساحة الامبراطورية العثمانية، كما كان يطمح نابليون بونابرت.

avata
سليمان الشيخ

كاتب فلسطيني