هل هي مصالحة، مغالبة، أم مشاركة؟
تصريحات الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، لقناة "صدى البلد" المصرية، السبت الماضي (7/6)، حول اتفاق المصالحة بين سلطته وحركة فتح من جهة، وحكومة قطاع غزة السابقة وحركة حماس من جهة أخرى، لا تبشر بخير كثير. وهي إن نَمَّتْ عن شيء، فإنما تَنُمُّ عن أن عباس يرى الأمور في إطار المغالبة، لا المشاركة، وفي سياق من تصفية الحسابات الفصائلية والشخصية الضيقة، لا مصلحة القضية الفلسطينية وشعبها.
قال أبو مازن إن حماس بدأت تفهم أنه ليس أمامها إلا أن تكون هناك مصالحة، وتابع: "بصراحة، المصالحة تمت على أرضيتنا، وشروطنا، واتفقنا على حكومة تكنوقراط مستقلين، حكومة توافق وطني، وليست حكومة وحدة وطنية، والتي ربما تأتي بعد الانتخابات. واتفقنا على أن تلتزم حكومة التوافق بسياستي التي أرسمها، تعترف بإسرائيل وتنبذ العنف وتقبل بالشرعية الدولية، وتقبل بالمقاومة الشعبية السلمية، وتقبل بالمفاوضات، وبما بيننا وبين الإسرائيليين من تنسيق أمني وغيره. أقول بمنتهى الصراحة، هذه هي الحكومة. وقُبِلَ هذا، وبما أنه قُبل، ننطلق إلى المرحلة الثانية، وهي الانتخابات".
أيضاً، رفض عباس بشدة المطالبات بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وطالب "حماس" بتحمّل رواتب الموظفين في حكومة غزة السابقة، بعدما صُرفت رواتب موظفي الضفة من دون موظفي غزة الشهر الماضي. وقال: "الذي كان يدفع لك يُكمل إلى أن نتّفق، أما من الآن تريد أن تحمّلني الرواتب! أنت جئت للمصالحة، من أجل أن تحمّلني الرواتب، وهذا غير مقبول، وإشارة سيئة أضع عليها إشارة استفهام". وفي ما يتعلق بمعابر قطاع غزة، أكد عباس أن الحرس الرئاسي الفلسطيني سيكون في جميع معابر قطاع غزة، وعلى طول الحدود بين قطاع غزة ومصر، معتبراً أنه "عندما يكون هناك الحرس الرئاسي، تكون هناك مصالحة، وبدون ذلك لا مصالحة". وتابع: "إذا كنّا (الحرس الرئاسي) على الحدود، لن نسمح لأي شيء يمر إلا من خلال المعابر الرسمية". وكشف عن أنه تقدّم سابقاً بـ"مشاريع وخرائط"، من أجل إغلاق الأنفاق، كونها "غير شرعية". وأفاد بأن من هذه المشاريع والخرائط وضع مياه في الأنفاق، أو وضع سياج حديد أو صلب، لكنه قال إنها لم تجد نفعاً في حينه.
لا يهمنا هنا بغْضُ عباس وفتح "حماس"، كما لا يهمنا أيضاً بغض "حماس" عباس وفتح. ما يعنينا، نحن المحبين لفلسطين والغيورين على مصلحتها، أن لا تكون القضية والشعب الحبّ الذي يُطحن في الطاحون الإسرائيلي.
الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني، وما بين الضفة وغزة، وحماس وفتح، كان صفحة سوداء في تاريخ القضية الفلسطينية، لكنه، أيضاً، لم يكن خلافاً على سلطة، كما يحاول بعضهم أن يصور الأمر، تبسيطاً وتسطيحاً، أو بسوء نية ونتيجة تحيّز. الخلاف كان، ولا يزال، قائماً على أساس برامجي ومشروعاتي، يتعلق بجوهر المشروع الوطني الفلسطيني.
فقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي اختارت طريق "أوسلو"، وإنشاء سلطة تحت مظلة الاحتلال الإسرائيلي، لم تفعل ذلك بتفويض شعبي فلسطيني، وإسرائيل لم تكن أصلاً في وارد إيجاد سلطة تكون نداً لها، أو متمردة عليها. وحينما أدرك الرئيس السابق، ياسر عرفات، رحمه الله، ذلك، وأراد تغيير قواعد اللعبة وخرق سقفها، كان مصيره الحصار والقتل، بالسم أو قهراً.
حماس، رفضت الاتفاق منذ البداية، ورأته غير شرعي، ونعم، حاولت إفشاله، ورفضت المشاركة في السلطة منذ 1994. لكنها عدلت عن رأيها ذاك، أواخر عام 2005، وقررت خوض الانتخابات التشريعية مطلع عام 2006، على أساس أن انتفاضة الأقصى أسقطت "أوسلو". وسواء كانت تلك الحجة مقبولة أم لا، فإن فيها بعض منطق. ولأن المفاوضات مع إسرائيل، حينها، كانت قد وصلت إلى طريق مسدود، ولأن السلطة كانت غارقة في الفساد ومارست القمع، ولأن حماس، كتيار مقاوم، لم تكن قد لطختها السياسة بعد، فإنها فازت في انتخابات حرة شهد العالم بنزاهتها. ولكن العالم نفسه رفض الاعتراف بها، ومارست القيادة التقليدية للسلطة، برئاسة أبو مازن، وبالتعاون مع إسرائيل والغرب، وعرب كثيرين، كل أنواع الحصار عليها وتعويق عملها، حتى وصلنا إلى الصدامات المؤسفة في يونيو/ حزيران 2007، وانتهت بسيطرة حماس على قطاع غزة.
المفارقة، هنا، أن أبو مازن هو ممّن ضغطوا على حماس حينها، للمشاركة في الانتخابات، ليعرف كل طرف حجمه الحقيقي، ولكن البنية الديكتاتورية للنظام العربي الرسمي، والسلطة الفلسطينية امتداد له، لم تكن لتقبل بنتيجة تصويت شعبي، لا تأتي بالقيادات نفسها إلى السلطة، فكانت محاولة الانقلاب على صندوق الاقتراع فلسطينياً، كما سيجري الانقلاب عليه مصرياً في يوليو/ تموز 2013.
الآن، كان الأصل أننا تجاوزنا ذلك التاريخ: مَن اعترف بإسرائيل ومَن فرّط، ومَن رفض الاعتراف بها ومَن صمد. لكن، يبدو، للأسف، من تصريحات أبو مازن التي نقلناها أعلاه، أن هذا النقاش لم ينته بعد، وأن منطق المغالبة، بل قل الانتقام، هو السائد. بعضهم في سلطة الضفة الغربية يظن أن هذا هو الوقت الأنسب لتصفية الحساب مع حماس، في ظل ردة عربية شرسة على الانتفاضات العربية.
إنها عودة إلى مفردات الخطاب الممجوج، الذي يفترض أن الخصم هو الشقيق الفلسطيني، لا العدو الإسرائيلي! الجنرال الأميركي، كيث دايتون، والذي أوكلت إليه مهمة إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعد وفاة عرفات، تحدث مزهوّاً، قبل سنين، في واشنطن، عن "الفلسطيني الجديد" الذي نجح في بنائه، قاصداً بذلك رجل الأمن الفلسطيني الذي أضحت عقيدته محاربة "الإرهاب"، أي المقاومة، لا إسرائيل!
أقول ذلك تعليقاً على إصرار الرئيس عباس على استمرار التنسيق الأمني مع إسرائيل، في حين أن المفاوضات السياسية انهارت تماماً، وتكاد إسرائيل تأتي كلياً على القدس الشرقية، ولا زالت تبتلع الضفة الغربية استيطاناً، دع عنك الجرائم والانتهاكات الأخرى التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من ذلك كله، يتحدث أبو مازن وكأن مشكلة فلسطين رواتب موظفي حكومة غزة السابقة (من باب إحنا شعب وإنتوا شعب!)، والتي تكفّلت قطر، مشكورة، بتحمّلها، كما تحملت من قبل كثيراً من احتياجات الشعب الفلسطيني.
باختصار، للأسف، السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية مهتمة أكثر، اليوم، بالتماهي مع الانقلاب في مصر والمحور العربي المعادي لتطلعات الشعوب في الحرية والكرامة. لذلك، ترى في حماس غزة خصماً ينبغي تصفيته، تماماً كما يجري مع الثورة في مصر، وكما يُحاوَل في ليبيا وتونس اليوم. لكن، وكما أن الانقلاب لم ينجح إلى اليوم في كسر إرادة الشعب المصري، على الرغم من كل القمع، من المستبعد جداً أن تنجح جهود السلطة مع حماس في غزة، أو حتى في الضفة.
مع ذلك، فلسطين ليست مصر. فلسطين محتلة من عدو أجنبي، وهو العدو الحقيقي، ومن ثمَّ يغدو صراع الأشقاء من الحماقة، مهما اختلفوا، في حين ينشغل العدو في تصفية حقوقهم جميعاً. فلسطين بحاجة إلى مشروع وطني تشاركي، لا إلى تصارع على سلطةٍ موهومةٍ ومنطق تغالبي.