هل قلتم إنسانية كونية؟

27 يونيو 2016
(تصوير: عباس مومني/فرانس برس)
+ الخط -

منذ سنواتٍ، كنت أشاهد الفيلم الحربي الأميركي "سقوط الصقر الأسود"، الذي يتحدّث عن فترة الحرب في الصومال وعملية تحرير طاقم طائرة حربية أميركية. أحداث الفيلم المثيرة والمتسارعة تجعلك مشدوهًا بمناظر القتل وإطلاق النار والدماء التي تتناثر في كل مكان.

في منتصف الفيلم، استدركت أنني أكتم أنفاسي متعاطفًا مع جنود احتلال، وأكره أهل البلاد الذين صوّرهم الفيلم على أنهم برابرة ووحوش. الأمثلة كثيرة على هذه الصورة التي تعمل على تشكيل وعي مختلف عند المشاهد؛ وعي يتضامن مع الجلاد ويمقت الضحية، أو في أحسن الأحوال يساوي بينهما.

بعد كل عملية فدائية تحدث في فلسطين المحتلة، تصعد إلى سطح النقاشات حول أخلاقيات العملية؛ جدل يستند ادعاءه الأخلاقي على نقطتين: الأولى، استهداف أماكن المدنيين، والثانية مدى جدوى العملية.

في النقطة الأولى، يفترض دعاة هذا الخطاب أن "دولة" الاحتلال هي "دولة مدنية"، وبذلك يسقط الحق في استهداف مكوناتها التي هي بالأساس تدور في فلك الجيش والأمن؛ إذ إن كل مواطن إسرائيلي هو جندي في جيش الاحتلال بالأساس، حتى وإن كان يجلس على الشاطئ بملابس ملونة.

أما النقطة الثانية؛ فتكبح إرادة كل فعل ضد الاحتلال الإسرائيلي وتضعه تحت تساؤل الجدوى والمنفعة والتي لا يوجد اتفاق على معيار قياسها. واضح أن هناك خللاً في تعريف الاحتلال. هذا الخلل يمكن معاينته بعد أحداث كهذه؛ حين يتم تفكيك الاحتلال وتجزئته والتعاطي معه وفق مزاجيات وأيديولوجيات كل خطاب.

هناك من يدعي أن "دولة" الاحتلال هي "دولة علمانية ديمقراطية" تقع وسط عربي إقليمي "متخلّف"، طبعًا لا ينتبه أصحاب هذا الخطاب إلى أنهم يتبنون خطاب الاحتلال أساسًا، لكن بالتأكيد لو انتبهوا لن يهمهم الأمر كثيراً.

وآخرون من دعاة "الإنسانية" التي بمقتضاها يعتقدون أن مهاجمة الاحتلال واستخدام كفاح يصفونه بـ "العنف" هو تضاد مع المبادئ الإنسانية الكونية، والتي لم نر منها إلا دعوات مساواة الضحية بالجلاد على قاعدة أن الجلاد هو إنسان، دون الالتفات إلى الدم السائل من ظهر الضحية، وعن سيف جلاده، متناسين أن الإنسانية هي العدالة؛ والعدالة هي تضاد تام مع فكرة الاحتلال، لكن هكذا خطاب ينفع لإقناع الضحايا بأن عليهم ألا يسقطوا في وحل التطرف والنزق والعنف، ودعوتهم من أجل تعايش سلمي مع جلادهم، التعايش والسلم الذي يفرض قواعدهما القوي حامل البندقية.

ينسى أولئك أن الإنسانية لا تكون بالمواقف المترفة، بل بالدفاع عن الضحية أينما كانت؛ لذلك لا يتذكرون راشيل كوري، الفتاة الأميركية التي وقفت أمام جرافة الاحتلال بمكبر الصوت محاولةً منعها من هدم منازل الفلسطينيين في قطاع غزة المحتل، لا يتحدثون عن راشيل التي هشمت الجرافة جمجمتها فوق تراب مخيم اللاجئين في رفح.

 الأسوأ من هؤلاء هم الذين يتقدمون في خطاب التمييع والتسطيح والتعايش غير المتكافئ؛ أولئك الذي يدعون إلى الشراكة والتطبيع مع الاحتلال، والتعامل معه ككيان من حقه الوجود، أو يحاولون فصل مكوناته الثقافية والعلمية والإعلامية عن مكوناته العسكرية، ويجدون لأنفسهم مبررات للتعامل معه في المؤتمرات العلمية والثقافية، أو حتى زيارة أراضي فلسطين المحتلة تحت حجة زيارة السجين لا السجان. كما لا بد من المشاركة في حفلات عشاء في أوروبا.

تحوّل ذلك إلى نهج تطبيعي متصالح مع الاحتلال، لذلك لم يكن غريبًا ظهور الكاتب الفرنسي (اللبناني؟) أمين معلوف في مقابلة مع قناة I24 الصهيونية، كان ذلك جزءاً من أفكار لها جذور في وطننا العربي، ورغم أن معلوف لم يقدم نفسه يومًا على أنه عربي، إلا أن الغريب كان من التفوا حول موقفه مبررين ذلك بأنه مثقف عالمي (فردي/كوني) يحق له أن يصعد كل المنابر.

لكن هذا لا ينسينا أيضًا أن الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو، والكاتب الفرنسي جان جينيه والمفكر جيل دولوز، كانت أفكارهم وسلوكياتهم نموذجًا للخطاب الثقافي الإنساني، لكنهم دعموا قضية فلسطين وميزوا بين القاتل والقتيل.

كانت جدتي تقول "الجرح في الكف" حين يكون الموقف صعبًا جداً، وكفنا الفلسطيني والعربي مجروحة أيضًا، فرغم دعوات المقاطعة للاحتلال وعدم التعاطي مع مكوناته، نجد أن ممثلين عن منظمة "التحرير" الفلسطينية يشاركون في مؤتمر هرتسيليا الذي يسعى إلى بحث أمن دولة الاحتلال القومي، ومن الغريب أن تجتمع مفردتا "التحرير" و"أمن الاحتلال" في مكان واحد، علمًا بأن منظمة التحرير وجدت لأجل تحرير البلاد من ذلك الاحتلال؛ أي هي على تضاد تام مع مفهوم الأمن القومي للاحتلال، كما الضحية نقيض الجلاد.

ذلك الذي لن يجعل دعوات ضرب غزة وضرب التحية لـ "الخواجة الإسرائيلي" التي ظهرت على شاشات الإعلام المصري، دعوات مستغربة، فهذا سياق لطالما انتهجته الكثير من الأنظمة العربية، وقتلت تعاطف شعوبها مع قضية فلسطين، إما باستخدامها لقمع الشعب باسم المقاومة والممانعة، أو كما يحدث مؤخراً باستخدامها كمصدر للإرهاب والعنف، وتطويق التعاطف الشعبي معها، إذ لم يؤنسنوا الجلاد فقط بل شيطنوا الضحية.

هذا كله يدفعنا للتفكير في صورة الفلسطيني التي رسمت لعقود، وعانت من التشوهات في ذهن العالم، إما بسبب الخطاب الفلسطيني المشتت، أو بسبب خطابات شاذة أحاطت بالقضية، ويدفعنا أيضًا إلى إعادة تعريف الاحتلال على أساس شامل.

المساهمون