هل فشلت الثورة السورية؟
لم تعمّر الثورة السلمية السورية زمناً طويلا، حيث لم تمض أشهر قليلة، حتى بدأت معالم العسكرة تشق طريقها بقوة إلى صفوفها. لا يعود ذلك إلى سلوك النظام الأمني، ومن ثم العسكري، على الرغم من أهميته، فهذا من نافلة عمل الأنظمة الشمولية، وإنما، أيضاً، لغياب منظّرين وقادة للجموع الثائرة، من جهة، ومحاولة تمثل التجربة الليبية، من جهة ثانية.
ومع ذلك، ظل جزء من السوريين متمسكاً بالعمل السلمي، هكذا، ظلت المظاهرات تخرج أيام الجمعة، حتى بداية عام 2013، إلى أن انتهت، بشكل تام، مع انزياحٍ آخر، أصاب واقع الثورة بسيطرة مسلحين من جنسيات غير سورية على المشهد الميداني، وما رافق ذلك من عملياتٍ إجراميةٍ، وخطاب شعبوي، أدلج الدين، وأجج المشاعر الطائفية، في خطوة صبت في مصلحة النظام الذي سيس الطوائف من بداية الأزمة.
بكل الأحوال، أدى هذا الواقع الجديد إلى انهيار منظومة العمل المعارض، بشقيه السلمي والمسلح، وانهارت معه مفاهيم الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة والدولة المدنية ودولة القانون التي من أجلها ثار السوريون.
الأهم من ذلك، أن سوريين كثيرين بدأوا يبتعدون عن حاضنة الثورة، بعد هذه الأهوال، وبدأ يظهر منظرون معادون للثورة، ومؤيدون للثورة المضادة على مختلف مشاربهم، وهذا طبيعي، في مراحل الثورات العنيفة التي تنزلق إلى مسارب، قد تؤدي إلى زعزعة المنظومة الاجتماعية ـ الاقتصادية، وتهدد كينونة الإنسان وصيروته الاجتماعية.
حدث هذا في معظم الثورات العالمية، هل علينا التذكير بهذا النقاش، على مستوى النخبة الفرنسية، غداة الثورة الكبرى عام 1789 بين الديمقراطيين المدافعين عن الثورة والمحافظين الرافضين لها ممثلين بمجموعة من المفكرين، أبرزهم إدموند بيرك الذي شن في كتابه "تأملات حول الثورة في فرنسا" هجوماً عنيفاً على الثورة ومفكري التنوير الذين نصبوا العقل فوق التقليد، والفرد فوق المجتمع، والحقوق الفردية فوق الحقوق الجماعية، ووحدوا بين الأمة والشعب بطريقة ثورية.
إن أحد أخطاء الثورة السورية أنها تحدثت باسم الشعب، كرد فعل مضاد ومواز في القوة للسلطة التي ماهت نفسها بالإرادة العامة للشعب، وقد نشأ عن عملية التماهي هذه من طرفي الأزمة تحويل الشعب إلى متعالٍ سياسي، وباسم هذا المتعالي، تم تأسيس أي عمل وشرعنته، من أجل تحقيق أهداف الشعب. وهنا، يصبح طغيان الثورة العنيفة مساوياً لاستبداد الأنظمة، وهي إشكالية وسمت بداية الثورة الفرنسية، وما زالت تسم الثورة السورية، إن أصبح ممكناً علمياً استمرار وصفها بالثورة.
ليس كل عنف يؤدي إلى ثورة، وليست كل ثورة تنتهي إلى النموذج الديمقراطي الليبرالي، لأن ما يمكن أن يبدو مفيداً، في مرحلة أولى، قد يؤدي إلى نتائج ضارة جداً، والعكس صحيح. لقد أثبتت التجارب التاريخية أن نقاط البداية لا تحدد المسار اللاحق للتحديث، بحسب ما بين المفكر بارنيجتون مور، في تحليله الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية.
ومع ذلك، لا يكون من الحصافة القول إن الثورة فشلت، والنظام نجح، فهذا توصيف غير دقيق للواقع ولعجلة التاريخ، صحيحٌ أن العنوان الرئيسي للصراع، الآن، لم يعد معادلة ثورة ـ نظام، لكن أي حل للأزمة السياسية السورية لا يصح في المقابل من دون العودة إلى هذه الثنائية، فالاستمرارية الاجتماعية والسياسية العميقة تجري من تحت الاضطرابات الثورية، ودلالة ذلك حدوث تغييرات سياسية مهمة، وإن كانت الأحداث قد تجاوزتها، أو، بعبارة أخرى، لم تكن هذه التغيرات تعكس الواقع، وتستجيب له، وتجيب عن أسئلته، لكنها، مع ذلك لها دلالاتها التاريخية، وتأثيرها في أعماق الصيرورة الاجتماعية السياسية، في المستقبل القريب، أو البعيد، وإن كانت تبدو مسكونية، وعديمة التأثير:
ـ الإصلاحات السياسية التي اعتمدها النظام بداية الأحداث، بإلغاء المادة الثامنة من الدستور، ثم تعديل الدستور، وسن قانون للأحزاب، وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات كانت فورات تنظيرية، غير قادرة على تغيير الطابع العام للبنى السياسية والاجتماعية، إلا أنها ذات أهمية كبيرة، لأنها المرة الأولى التي يضطر فيها النظام، منذ عقود، إلى إجراء إصلاحات تحت ضغط الشارع.
ـ ظهور حركات وأحزاب سياسية، وإن كان بعضها من صناعة النظام، لكن هذه الحركات والأحزاب أصبحت جزءاً من المجتمع المدني، لأنها خارج ثنائية القوة والربح، وإن كانت السياسية غاية عملها، ويمكن اعتبار هيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة (معارضة) وبعض الأحزاب (موالية للنظام) من جهة، والحركات الاجتماعية ذات المضمون الإغاثي، من جهة ثانية، عنوان المجتمع المدني الجديد في سورية، لقد بدأ ينشأ حيز عام منفصل عن الدولة.
ـ الانتقال، لأول مرة منذ عقود، من صيغة الاستفتاء إلى صيغة الانتخابات التعددية، وهذا تطور مهم، على الرغم من الصيغة الديمقراطية الكاذبة التي حاولت هذه الانتخابات إظهارها، قد تعني الانتخابات، في مرحلة تاريخية، استبداد الأغلبية (الإخوان المسلمون في مصر وانقلاب السيسي العسكري)، وفي حالة أخرى، إحياء للبنى ما قبل المدنية (ليبيا)، وفي حالة ثالثة إعادة إنتاج النظام لنفسه (سورية)، لكن كل هذه الحالات تؤكد أن حركة التاريخ تسير إلى الأمام، وإن بأشكال وأثمان مختلفة. ألم تبدأ الحداثة الأوروبية بالتنظير للحكم المطلق، ومع ذلك، كانت هذه الحداثة، ممثلة بهوبس، ثورية، لأنها أسست هذا الحكم على العقد الاجتماعي، وليس على الحق الإلهي.
في كتابه المهم "المجتمع المدني .. دراسة نقدية"، جادل عزمي بشارة في أثناء مناقشته أفكار الفيلسوف الأسكتلندي، آدم فيرغسون، بشأن أهمية الشكل الديمقراطي، أكثر من المبدأ الديمقراطي، فقد بينت تجارب القرنين الماضيين أن جوهر الديمقراطية ليس مبدأ كامناً وراءها، وإنما جوهر الديمقراطية شكلها ذاته، فكم من دولةٍ التزمت بالمبدأ، وداست على الشكل.
لقد سقط النظام السوري، بالمعنيين، الشرعي والقانوني، وأي محاولة للبقاء لن يكتب لها النجاح، وقد بين الفيلسوف، إريك هوبسبام، في دراسته الثورات الأوروبية، أن محاولة الأنظمة في البقاء ستنتهي إلى الفشل، لأن الأنساق السياسية التي يمكن فرضها تتناقض مع الظروف السياسية القائمة تناقضاً عميقاً، في مرحلة التغيير الاجتماعي والواقع السياسي الجديد الذي أفرزته الحركة الاحتجاجية، اللهم إلا إذا استطاعت هذه الأنظمة تغيير ذاتها، بما يواكب التغيير الذي أصاب فضاءات السلطة الاجتماعية الجديدة.