هل العدالة الانتقالية ممكنة في مصر؟

26 يونيو 2018
+ الخط -
بعد التدخل العسكري في مصر في 3 يوليو/ تموز 2013، حاول بعضهم الشعور ببعض الطمأنة، أو ربما كان هذا على سبيل الأمنيات الساذجة، فقد كان هناك وقتها ما يطلق عليها وزارة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، فوجود مصطلح العدالة الانتقالية، سواء في ديباجة الدستور، أو ما أطلق عليها خريطة الطريق، أو ضمن التشكيل الوزاري في ذلك الوقت، يعني أنه يمكن البدء في مرحلة جديدة بدون انتقام وبدون دم، وبدون إقصاء وتصفية حسابات، وأنه يمكن الوصول يوما إلى حل وسط بين الطرفين الرئيسيين المتصارعين على السلطة منذ الخمسينيات.
وفي 23 يناير/ كانون الثاني 2014، أصدر رئيس الوزراء آنذاك، حازم الببلاوي، قرار اً يحدد أخيرا أهداف وزارة العدالة الانتقالية ومهامها، بعدما ظلت شهورا بلا مهمة واضحة منذ إطاحة الرئيس محمد مرسي، وكان من الأهداف المعلنة وقتها: ضمان العبور الآمن إلى المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر بأقل تكلفة، وأكثر عائد، على نحو يدعم الوحدة الوطنية، ويحقق المصالحة الوطنية الشاملة، وتحديد المسائل والموضوعات التي تؤثر في وحدة نسيج المجتمع، ووضع حلول جذرية لها وآليات تنفيذها، وترسيخ قواعد المساءلة ومعنى العدالة، ودعم احترام حقوق الإنسان، وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، ونشر ثقافة التسامح والعيش المشترك، وتكريم المضارين من انتهاكات حقوق الإنسان، في الفترات السابقة على المرحلة الانتقالية، والعمل على جبر الأضرار مادياً ومعنوياً، والإصلاح والتطوير المؤسسي الكامل، بما يضمن بناء نظام ديمقراطي، يرسخ قيم الديمقراطية التي تقوم على المشاركة وقيم الإدارة الرشيدة.

كانت مجرد ديباجة، تهدف إلى مزيدٍ من الخداع للرأي العام، المحلي والدولي، فقد كان بعض السّذج لديهم بعض الأمل في وقف المذابح والاعتقالات وبدء عملية العدالة الانتقالية والمصالحة ووقف النزيف وترميم الشروخ العميقة التي حدثت في المجتمع المصري. ومع الوقت، أصبحت كلمة مصالحة منبوذة، وأصبح من ينطق بها خائناً، وشيئا فشيئا أصبحت كلمة عدالة انتقالية كذلك. ومع مرور الوقت، أصبحت المصالحة بعيدة، فالنظام العسكري يتورّط يوميا في جرائم متزايدة، تجعله أكثر انغماسا في طريق اللاعودة، وتبعده كثيرا عن صوت العقل والمصلحة العامة والمصالحة والعدالة الانتقالية، فبعد فترة تم تغيير المسمى إلى "وزارة العدالة الانتقالية وشؤون مجلس النواب"، إلى أن أزيلت جزئية العدالة الانتقالية تماما من المسمى فى 2015، فأصبحت وزارة الشؤون القانونية ومجلس النواب.
ليس من مصلحتهم البدء في عدالة انتقالية تعيد السلام الأهلي، وتداوي جروح المجتمع، فوقتها لن يصبح هناك مبرّر لسياسة التخويف وخرافات المؤامرات وخطاب الحرب علي الإرهاب، كما أن العدالة الانتقالية تعني الاعتراف والمكاشفة والمحاسبة وإعادة الدمج، وتعني كذلك مستقبلاً جديداً وإشراكاً للجميع في السلطة والثروة واتخاذ القرار، وهو ما يهدّد المصالح المباشرة لدولة العسكر. وحتى الآن، لا توجد محاولات جادة لتطبيق برنامج العدالة الانتقالية، فقد عمل نظام الحكم جاهدا منذ اليوم الأول على إغلاق الباب، وإحراق وسائل العودة أمام أي محاولةٍ للتهدئة والمصالحة والسلام الأهلي، وفي الوقت نفسه، كان هناك هجوم حاد من الإعلام الموالي للسلطة وبعض الشخصيات الأكاديمية والسياسية على كل من ينطق بلفظ مصالحة أو عدالة انتقالية، على الرغم من أنها هي الطريق الوحيد لإخراج مصر من كبوتها.
ولكن، بشكل عام يمكن القول إن مصطلح العدالة الانتقالية كان غائبا أيضاً منذ البداية، تردّد بصوت خافت بعد ثورة يناير 2011، فقد كان الصوت الأعلى وقتها أيضا هو الانتقام من رموز النظام السابق، فهل أخطأت ثورة يناير، عندما طالبت بالتطهير التام للمؤسسات، والتخلص من كل ما أو من كان يرتبط بالنظام السابق؟ هل أثار ذلك مخاوف قطاعات عريضة ورعبها، وزادت من نفورها من الثورة؟ أم كان خطأ الثورة أنها كانت متسامحة بالقدر الزائد مع مؤيدي نظام حسني مبارك، إلى درجة أنها سمحت لأعدائها بالتظاهر والاعتصام بحرية، وترويج كل أنواع الشائعات والأكاذيب المضللة، بمنتهى الحرية والأريحية، بدعوى الدفاع عن حرية الرأي والتعبير؟ يتعجب بعضهم الآن كيف كنّا نسمح لهم بحرية التظاهر والاعتصام ومهاجمة الثورة والتشكيك فيها في وسائل الإعلام، ونحن الآن قد يتم حبسنا شهورا وسنوات، في حالة إن تجمعنا في مكان ما مصادفةً.
يرى باحثون في شؤون العدالة الانتقالية أنه كان خطأ كبيراً ذلك العداء المفرط ضد كل رجال مبارك، والذي شمل نسبة كبيرة من المجتمع، فهناك ملايين الموظفين في الحكومة الذين تم إجبارهم على خدمة الحزب الوطني الديمقراطي، الحاكم في عهد مبارك، ودعمه. وهناك مئات الآلاف الذين تم إجبارهم على الانضمام لذلك الحزب، من أجل الحصول على وظيفة، أو الاستمرار في وظيفة، أو فقط من أجل العيش في سلام. وهناك آلاف رجال الأعمال الذين تم إجبارهم على الانضمام للحزب الحاكم، لكي تستمر استثماراتهم من دون تضييق أو إغلاق أو إجراءات عقابية، ولذلك كان يجب البدء فورا في تطبيق إجراءات للعدالة الانتقالية، ويكون هذا هو المخرج الرئيسي لتجنب كل ما حدث بعد ذلك.
نصحنا نيلسون مانديلا، في رسالته إلى شباب الثورة عام 2011، بالإسراع فورا في عملية العدالة الانتقالية، وعدم الانسياق وراء أي رغبات انتقامية مع رموز النظام القديم، فذلك سيزيد خوفهم، وسيزيد من اتحادهم وتحفزهم ضد ثورة يناير، نصح كذلك بعدم طرد أو إقصاء من يحاول التلون بلون الثورة، ممن كانوا يتعاونون مع النظام القديم، فقبولهم أفضل من إقصائهم وتحويلهم أعداء.
ولكن على الرغم من ديمقراطية ثورة يناير، ومحاولة ابتعادها عن إجراءات الثأر والانتقام العنيف والإعدامات والتصفية الجسدية التي كانت رائجة في ثورات القرن العشرين وما قبله، إلا أن فكرة العدالة الانتقالية، أو استيعاب بعض رموز مبارك، أو عدم ملاحقتهم، لم تلق قبولا واسعا في الأوساط الشبابية والثورية، بل أحياناً كانت تثار فكرة المحاكم الثورية والاستثنائية كلما يكون الشعور بتواطؤ المحاكم الطبيعية والنيابة العامة التي تتسامح مع سرقة الأدلة التي تدين رجال مبارك، أو مع الوثائق التي تم إتلافها عمدا.
يتساءل بعضهم إن كان يمكن تطبيق العدالة الانتقالية في ذلك الوضع المعقد في مصر. ولكن عند استمرار القراءة في التجارب التي تم تطبيق العدالة الانتقالية فها تجد أن الوضع كان أكثر تعقيدا مما هو عليه الحال في مصر الآن. صحيح أن ما حدث في ميدان رابعة العدوية في أغسطس/ آب 2013 يعتبر من أكبر المذابح التي حدثت في مصر في التاريخ الحديث. ولكن هناك دول استطاعت طي صفحة الماضي، على الرغم من مجازر أكثر وحشية من مجزرة ميدان رابعة، وعلى الرغم من أعداد معتقلين وإعدامات وتعذيب واختفاء أكثر مما يحدث في مصر الآن. ولكن لا يمكن القول إن هناك خطاً ثابتاً أو نموذجاً ثابتاً لتطبيق العدالة الانتقالية، فما نجح هنا قد لا ينجح هناك، وما تم رفضه هناك قد يمكن القبول به هنا. ولكن بشكل عام هناك أسس للعدالة الانتقالية لا حيد عنها، وهل المكاشفة، ثم المحاسبة ثم المصالحة ثم إعادة الهيكلة، ممكنة.

يتساءل بعضهم: هل يمكن تطبيق عدالة انتقالية، على الرغم من كل ما فعله ويفعله النظام الحاكم من جرائم وانتهاكات؟ ولكن ما يجب الاعتراف به، أولا وقبل كل شيء، أن كل الأطراف، من دون استثناء، شاركت في الأخطاء والجرائم، منذ أن سارع بعضهم إلى ترك ميدان التحرير قبل الاتفاق على أي شيء، مرورا ببدء "الإخوان المسلمين" في نفاق العسكر، ظنا منهم أن ذلك سيأتي بمكاسب سياسية على حساب باقي الشركاء، مرورا بجرائم في حق شباب الثورة، ارتكبها المجلس العسكري، وباركها "الإخوان"، مثل مذابح ماسبيرو وشارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء، مرورا كذلك بأخطاء "الإخوان" في أثناء وجودهم في السلطة، ابتداء من الإعلان الدستوري الذي بدأ دائرة الهلاك، مرورا بممارسات "الإخوان" في السلطة التي اتسمت بالإقصاء والغرور والتعالي، مرورا بكوارث ما يطلق عليه التيار المدني والثوري الذي بارك قتل المخالفين، وقمعهم وإقصاءهم، ظنا منهم أن ذلك هو السبيل نحو بعض المكاسب، أو على الأقل ظنا منهم أن ذلك قد يعصمهم من التنكيل بهم مستقبلا.
وتبقى أسئلة مهمة يمكن الوصول إلى بعض الإجابات عليها، بعد استعراض تجارب ونماذج للعدالة الانتقالية الناجحة، فمثلا ما الذي يجبر دكتاتورا عنيدا، لديه القوة والمال والسلاح، على التخلي عن بعضٍ مما عنده، ويقبل بمسار يجعل الآخرين يشاركونه في السلطة والثروة، وما الذي يجبر الجنرالات على التخلي عن المسار الذي يضمن لهم الانفراد بكل شيء، وعدم المحاسبة عن أي شيء؟ وكيف يمكن تحقيق بعض العدالة، إذا كان هناك احتمال لعدم تطبيق القصاص على المجرم؟.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017