هل أنا "شارلي إيبدو"؟

11 يناير 2015

مسيرة تضامن في تونس مع "شارلي إيبدو" (9 يونيو/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
يقترب الزائرون من أقفاص الحديد المنتشرة على كامل المعرض، ويتفحصون كائنات تتحرك داخلها، متسائلين: ما هؤلاء؟ ثم سرعان ما يحسمون الأمر، ويعترفون في زهو بأنهم ليسوا مثلنا، إنهم ليسوا بشراً. ولما كانت إشارات "ممنوع اللمس" لم يبتكرها بعد الذكاء التسويقي، فإن الزائرين العديدين لا يتوانون عن قرص أذن أحدهم، أو لمس قفاه، لمعرفة ما يمكن أن يبدي من ردود أفعال. وما إن يطمئنوا لأحدهم، حتى يقتربوا منه، على وجل لالتقاط صورة للذكرى. بعض تلك الكائنات مقيد بما يشبه الخلاخل، هي الأصفاد، وبعض آخر عار تماماً، في حين كان آخرون مكسوين بغريب الريش والقش والعاج. يجلب هؤلاء أكثر من غيرهم زواراً. تعرض أشياء أخرى ذات صلة اختفت الآن، أو تكاد، إلا مما سينعت لاحقاً "متاحف الإنسان".
في الصحف نفسها، الصادرة آنذاك، يتأمل القراء، في نهم شديد، شيئا ما أطلق عليه، آنذاك، اسم الصور الفوتوغرافية، وهي تبرز رؤوساً مقطوعة لمغاربة أو أفارقة، تشكل قلائد تتدلى على صدور عريضة، لمقاتلين بيض أشاوس يتباهون بها. لن أستطرد في استحضار مشاهد الصيد القديمة التي تنتهي بخيارين، سقوط الطريدة البشرية مضرجة بدماء الرماح والبارود أو التخبط في شراك سميكة. يتم تسمين بعضهم، وقتل بعض آخر، لأنه غير صالح للتوريد.
اختفت تلك المعارض نهائياً سنة 1958، وكان آخر معرض هو معرض بروكسيل الذي شاهد فيه الزوار مائة من آخر المخلوقات البشرية الغريبة المجلوبة من الكونغو، بلاد باتريس لوممبا.
الإنسان اختراع حديث أنتج في سياقات معقدة، وهو ليس طبيعة، أو فطرة، فهاتان المقولتان تعدان من بقايا تاريخ ما قبل الإنساني، فالضمير الإنساني الذي يبدي مشاعر تكاد تكون متطابقة تجاه الأحداث، ليس، في النهاية، سوى إنتاج راهن، منحته العولمة دفعاً غير مسبوق.
عبر الضمير الإنساني في موت الأميرة ديانا وأحداث "11 سبتمبر" وتسونامي، عن المشاعر نفسها، وهو الضمير نفسه الذي تحرك إثر الجريمة البشعة التي ارتكبت في حق مجلة "شارل إيبدو" الفرنسية الساخرة، وراح ضحيتها أكثر من 12 صحافياً وأمنياً.
في فرنسا، البلد الذي شهد الجريمة البشعة، تشكلت ردود الأفعال على نحو آخر، إذ تجاوزت بسرعة فائقة الزعامات السياسية الفرنسية خلافاتها، وتعالت على جراحاتها الشخصية، وتداعت إلى التضامن، ورص صفوف الوحدة الوطنية، تحت سقف قيم الجمهورية الفرنسية. ولعل أهم تلك القيم، قيمة الحرية التي شكلت مع الأخوة والمساواة روحية الجمهورية الفرنسية الحديثة. على هذا النحو، لم يكن الأمر عند الفرنسيين مجرد مشاعر إنسانية نبيلة، ترسخت في الضمير الفردي والوجدان الجماعي للفرنسيين.
هل ما حدث شأن فرنسي؟ لا يمكن أن يكون الأمر كذلك، حتى وإن تغاضينا عن الإعلام المعولم. فما حدث ليس مجرد حدث تعولم، إنما ضمير إنساني تحرك بشكل يكاد يكون متطابقاً. المثيرات نفسها تطلق، أو تكاد، المشاعر نفسها. هذا أمر جديد علينا أن ننتبه إليه.
على صفحات التواصل الاجتماعي للتونسيين، وهم المتيّمون بـ"فيسبوك" خصوصاً، أجمعت
ردود الأفعال في معظمها، باستثناء حالات نادرة، على أن الجريمة مدانة، وأن لا شيء يبرر ما حدث، فالشرائع السماوية، فضلا عن الأخلاق والمواثيق والقوانين الدولية، تجرّم مثل هذه الاعتداءات الوحشية، ولا تجيز مطلقاً قتل مدنيين، ناهيك وهم بين فنان وصحافي.
من أبرز التعبيرات في السماء الافتراضية الزرقاء التي يأوي إليها عادة التونسيون، ليلاً، لافتتان وشّحهما السواد، تقول الأولى "أنا شارلي"، وتقول الثانية "أنا تونسي أو تونسية عربية مسلمة، أؤمن بالحرية، وبحق شارلي في التعبير. ولكن، أنا لست شارلي"
تعبر الأولى عن مطلق التطابق مع الجريدة إلى حد التماهي والذوبان، في حين تعبر الثانية عن التضامن، ولكن عن التبرم المتزايد أيضاً من النفاق الذي يخترق ذلك "الضمير الإنساني"، فهذا الضمير يفقد، في مواقع كثيرة، بياضه، ليتلون بلون الديانات والأجناس والأعراق. لا يمكن أن ننكر أن إنسانيتنا المشتركة فشلت في أن تكون منصفة، فالضمير الإنساني لا ينبض بالإيقاع نفسه، ولا تستفز مشاعره النبيلة وردود أفعاله المثيرات نفسها. لا يعود الأمر إلى مجرد نسبية ثقافية، بل إلى انفصام حاد، عبر عنه دومينيك دوفيلبان، الوزير الأول الفرنسي الأسبق، حين اعتبر، في معرض إدانته الشديدة المجزرة، أن الغرب لم يكن في تعامله مع المسلمين منصفاً، حين آثر سكب الزيت على حرائق هووية، بدورها مستعرة. وأن الغرب لن يربح معركة الإرهاب، إلا إذا عدل وأنصف وقارب بشكل آخر قضايا دولية، للأسف، فرضت أميركا على الجميع مقاربتها العسكرية.
نكبر في التونسيين مشاعر التضامن مع صحيفة شارل إيبدو، ونتفهم حتى تعاطفهم الليلي مع الضحايا أمام بيت السفير الفرنسي. ولكن، نرجو أن يصحو الضمير نفسه، ويوقدوا الشموع نفسها، وباسم تلك القيم، كلما قتلت أنظمة القمع بشراً يقال عنهم عرب.
تدفع المشاعر الإنسانية من وضعوا لافتات "أنا شارلي" على حساباتهم الخاصة في مختلف المواقع الاجتماعية، أن يعلقوا "أنا غزة"، مثلاً، متى ارتكبت إسرائيل مجازر في حق بشر هم ليسوا أقل إنسانية من ضحايا القتل الآثم والإرهاب الأعمى من صحافيي "شارلي".
حين يخفق قلب الإنسانية بإيقاعات متباينة، فذلك مؤشر على مرضٍ ما، علينا معالجته في أقرب الأوقات.
السلام والرحمة على أرواح ضحايا "شارلي إيبدو".


7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.