08 نوفمبر 2024
هذه المؤامرةُ على فلسطين
على الرغم من الدعم غير المشروط الذي عادة ما يحظى به الكيان الصهيوني من الإدارات الأميركية المتعاقبة، إلا أنه لا يمكن فصل قرار اعتراف الرئيس دونالد ترامب بالقدس عاصمة لهذا الكيان عما تعرفه المنطقة من تجاذباتٍ ظاهرة وخفية.
من المعروف أن أي قرار تتخذه واشنطن يكون نتاج تفاعل مواقف وقراءات ورؤى، تشترك في بنائها مراكز البحث والتفكير، والخارجية، والدفاع، ووكالة الاستخبارات الأميركية، فضلا عن البيت الأبيض. لذلك من الصعب أن يقنعنا أحد أن قرار ترامب أملاه مزاجه الشخصي من دون اعتبار لما يحدث في المنطقة، بدءا بالصعود السياسي المدوي لمحمد بن سلمان في السعودية، وضخ الرياض مليارات الدولارات في الخزانة الأميركية بعد زيارة ترامب المعلومة للمملكة، ناهيك عن حالة الاستقطاب الحاد وغير المسبوق بين الأجندات والمصالح المتضاربة.
عرفت القضية الفلسطينية، خلال عقود طويلة، مسارات مأساوية، نتيجة التفوق العسكري الإسرائيلي، ودعم الدول الغربية الكبرى، وغياب استراتيجية عربية متماسكة لمواجهة الكيان الصهيوني. وعلى الرغم من فقدان الأرض، واتساع دائرة الشتات الفلسطيني، والمتغيرات الإقليمية والدولية المتلاحقة التي أربكت النخب الفلسطينية، وحشرتها في زاوية ضيقة، على الرغم من ذلك كله، ظل النظام العربي الرسمي يحافظ (أقله ظاهريا) على الحد الأدنى مما دأب الرأي العام الفلسطيني والعربي على اعتبارها ثوابتَ، لا ينبغي التفريط فيها، وفي مقدمتها قضية القدس.
حينما زار الرئيس المصري الراحل أنور السادات إسرائيل في 1977، وأبرم معها اتفاقية
كامب ديفيد، شكل ذلك خروجا عن الإجماع العربي الذي كان يعني إقرارا رسميا وشعبيا بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. صحيح أن هذا الإجماع لم يحل دون توالي فصول أخرى من المأساة الفلسطينية، كاجتياح الجيش الإسرائيلي بيروت في 1982، وغياب رموز الثورة الفلسطينية، وقبول منظمة التحرير بحل الدولتين، واعترافها بإسرائيل، وصولا إلى التوقيع على اتفاق أوسلو وما انبثق عنه. على الرغم من ذلك، كان للمعادلة جانبها الآخر المتمثل في الوعي الشعبي بالقضية، والذي كان يُنتج نوعا من التوازن الموازي داخل هذه المعادلة، الأمر الذي كان يضطر معه مهندسو خطط التسوية إلى التواري خلف كواليس الدبلوماسية الإقليمية والدولية، لترويج خططهم ومحاولة إقناع الطرف الفلسطيني، المغلوب على أمره، بالقبول بها على ما فيها من إجحاف وتجاوز صارخ للثوابت الفلسطينية والعربية.
وعلى الرغم من تقلص البدائل، إلا أن هذا الوعي ظل يتعزّز بخيارات فكرية وسياسية وعسكرية جديدة، أفرزتها الوطنية الفلسطينية، لا سيما مع استمرار رفضٍ دالٍّ كانت تبديه الأجيال العربية المتعاقبة حيال الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها.
وإذا كان ذلك قد مثَّلَ إكراها بنيويا لدوائر صنع القرار في العالم العربي وإسرائيل والغرب، فإن المتغيرات التي تعرفها المنطقة، منذ اندلاع الثورات العربية، جعلت القضية الفلسطينية تعاني من حالة فراغ جيو سياسي مريع، خصوصا بعد التطورات المأساوية في سورية، والانقلاب العسكري في مصر، وانتشار أعمال العنف والفوضى في المنطقة، واتساع رقعة الاقتتال الأهلي، وانشغال معظم البلدان العربية بترميم تصدّعاتها الداخلية والحفاظ على نسيجها الأهلي والاجتماعي.
تحول هذا المشهدُ الدراماتيكي إلى فرصةٍ بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، بعد مجيء دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، لا سيما أن النفوذ الإيراني في المنطقة بات كابوسا يقض مضجع المحور العربي السني الذي تتزعمه السعودية؛ فرصة جعلت ترامب يطلب من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، التدخل لدى السلطة الفلسطينية للضغط عليها، ودفعها إلى إنجاز مصالحة مع حكومة حماس في غزة، في أفق تهيئة الظروف لبدء مفاوضاتٍ جديدة مع إسرائيل، من أجل التوصل إلى تسوية نهائية تنهي الصراع، وتفضي إلى تطبيع شامل بين إسرائيل والعالم العربي.
هذه التسوية المجحفة، وإن كانت تنبني على أساس حل الدولتين كما يبدو، إلا أنها تستبعد قضايا
جوهرية وحاسمة بالنسبة لمستقبل الصراع. من هنا، فإن اعتراف الإدارة الأميركية بالقدس عاصمة لإسرائيل يبدو نقلة نوعية في هذا المشهد، ومخططا تشرف عليه إسرائيل والولايات المتحدة بدعم قوى عربية معلومة.
يتعلق الأمر، إذن، بفرصة عربية ''تاريخية'' للتخلص من هذا ''العبء'' الفلسطيني الذي بات لا يُحتمل، والدفعِ في اتجاه تسوية تنهي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي (كما صار يسمّى!)، وتفتح الباب على مصراعيه أمام الكيان الصهيوني، ليصبح جزءا من محور عربي سني إسرائيلي تقوده السعودية وإسرائيل، وتشارك فيه بلدان عربية أخرى، ويضطلع بقيادة المواجهة ضد إيران وحلفائها، وبالتالي التحكم في الجزء الأكبر من أوراق المنطقة.
بيد أن ذلك كان بحاجة لخطوة أميركية دالة تفرض الأمر الواقع، وبالتالي يتحول اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل إلى أرضيةٍ لا محيد عنها للتفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ تفاوض ستكون له مخرجات، سيعمل المنشغلون بمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة على استخلاص عوائدها بغاية تعزيز اصطفافهم الذي ينتظر الإعلان الرسمي عن شهادة ميلاده.
إنها مؤامرة يدرك عرّابوها أن نجاحها يقتضي حل هذه القضية بأي ثمن، من خلال فصلها عن امتداداتها الثقافية والاجتماعية في الوجدان الشعبي العربي، وتسليم مفاتيحها للولايات المتحدة وإسرائيل.
تنتهج إيران سياسة طائفية مقلقة في المنطقة، بانخراطها المتواتر في توظيف النعرات المذهبية في أكثر من بلد عربي، من أجل توسيع رقعة نفوذها وتأثيرها في المشهد الإقليمي، غير أن ذلك ليس مبرّرا، على الإطلاق، لتقوم دولة عربية كبرى، بحجم السعودية، بتقديم القضية الفلسطينية على مذبح صراعها مع إيران، حتى يتسنّى لها تهيئة الشروط الإقليمية والدولية لتوجيه ضربة إلى الأخيرة وإجهاضِ مخططاتها في المنطقة.
من المعروف أن أي قرار تتخذه واشنطن يكون نتاج تفاعل مواقف وقراءات ورؤى، تشترك في بنائها مراكز البحث والتفكير، والخارجية، والدفاع، ووكالة الاستخبارات الأميركية، فضلا عن البيت الأبيض. لذلك من الصعب أن يقنعنا أحد أن قرار ترامب أملاه مزاجه الشخصي من دون اعتبار لما يحدث في المنطقة، بدءا بالصعود السياسي المدوي لمحمد بن سلمان في السعودية، وضخ الرياض مليارات الدولارات في الخزانة الأميركية بعد زيارة ترامب المعلومة للمملكة، ناهيك عن حالة الاستقطاب الحاد وغير المسبوق بين الأجندات والمصالح المتضاربة.
عرفت القضية الفلسطينية، خلال عقود طويلة، مسارات مأساوية، نتيجة التفوق العسكري الإسرائيلي، ودعم الدول الغربية الكبرى، وغياب استراتيجية عربية متماسكة لمواجهة الكيان الصهيوني. وعلى الرغم من فقدان الأرض، واتساع دائرة الشتات الفلسطيني، والمتغيرات الإقليمية والدولية المتلاحقة التي أربكت النخب الفلسطينية، وحشرتها في زاوية ضيقة، على الرغم من ذلك كله، ظل النظام العربي الرسمي يحافظ (أقله ظاهريا) على الحد الأدنى مما دأب الرأي العام الفلسطيني والعربي على اعتبارها ثوابتَ، لا ينبغي التفريط فيها، وفي مقدمتها قضية القدس.
حينما زار الرئيس المصري الراحل أنور السادات إسرائيل في 1977، وأبرم معها اتفاقية
وعلى الرغم من تقلص البدائل، إلا أن هذا الوعي ظل يتعزّز بخيارات فكرية وسياسية وعسكرية جديدة، أفرزتها الوطنية الفلسطينية، لا سيما مع استمرار رفضٍ دالٍّ كانت تبديه الأجيال العربية المتعاقبة حيال الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها.
وإذا كان ذلك قد مثَّلَ إكراها بنيويا لدوائر صنع القرار في العالم العربي وإسرائيل والغرب، فإن المتغيرات التي تعرفها المنطقة، منذ اندلاع الثورات العربية، جعلت القضية الفلسطينية تعاني من حالة فراغ جيو سياسي مريع، خصوصا بعد التطورات المأساوية في سورية، والانقلاب العسكري في مصر، وانتشار أعمال العنف والفوضى في المنطقة، واتساع رقعة الاقتتال الأهلي، وانشغال معظم البلدان العربية بترميم تصدّعاتها الداخلية والحفاظ على نسيجها الأهلي والاجتماعي.
تحول هذا المشهدُ الدراماتيكي إلى فرصةٍ بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، بعد مجيء دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، لا سيما أن النفوذ الإيراني في المنطقة بات كابوسا يقض مضجع المحور العربي السني الذي تتزعمه السعودية؛ فرصة جعلت ترامب يطلب من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، التدخل لدى السلطة الفلسطينية للضغط عليها، ودفعها إلى إنجاز مصالحة مع حكومة حماس في غزة، في أفق تهيئة الظروف لبدء مفاوضاتٍ جديدة مع إسرائيل، من أجل التوصل إلى تسوية نهائية تنهي الصراع، وتفضي إلى تطبيع شامل بين إسرائيل والعالم العربي.
هذه التسوية المجحفة، وإن كانت تنبني على أساس حل الدولتين كما يبدو، إلا أنها تستبعد قضايا
يتعلق الأمر، إذن، بفرصة عربية ''تاريخية'' للتخلص من هذا ''العبء'' الفلسطيني الذي بات لا يُحتمل، والدفعِ في اتجاه تسوية تنهي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي (كما صار يسمّى!)، وتفتح الباب على مصراعيه أمام الكيان الصهيوني، ليصبح جزءا من محور عربي سني إسرائيلي تقوده السعودية وإسرائيل، وتشارك فيه بلدان عربية أخرى، ويضطلع بقيادة المواجهة ضد إيران وحلفائها، وبالتالي التحكم في الجزء الأكبر من أوراق المنطقة.
بيد أن ذلك كان بحاجة لخطوة أميركية دالة تفرض الأمر الواقع، وبالتالي يتحول اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل إلى أرضيةٍ لا محيد عنها للتفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ تفاوض ستكون له مخرجات، سيعمل المنشغلون بمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة على استخلاص عوائدها بغاية تعزيز اصطفافهم الذي ينتظر الإعلان الرسمي عن شهادة ميلاده.
إنها مؤامرة يدرك عرّابوها أن نجاحها يقتضي حل هذه القضية بأي ثمن، من خلال فصلها عن امتداداتها الثقافية والاجتماعية في الوجدان الشعبي العربي، وتسليم مفاتيحها للولايات المتحدة وإسرائيل.
تنتهج إيران سياسة طائفية مقلقة في المنطقة، بانخراطها المتواتر في توظيف النعرات المذهبية في أكثر من بلد عربي، من أجل توسيع رقعة نفوذها وتأثيرها في المشهد الإقليمي، غير أن ذلك ليس مبرّرا، على الإطلاق، لتقوم دولة عربية كبرى، بحجم السعودية، بتقديم القضية الفلسطينية على مذبح صراعها مع إيران، حتى يتسنّى لها تهيئة الشروط الإقليمية والدولية لتوجيه ضربة إلى الأخيرة وإجهاضِ مخططاتها في المنطقة.