ما إن تنزل من الطائرة ـ أنت الحريص على ألا تعرف شيئاً عن أيّ رحلة تقوم بها، لكيما تتعرّف وتستكشف بجسدك ـ حتى يفاجئك الاسمُ مكتوباً بحروف سوداء: مطار فيدِريكو غارثيا لوركا.
تفرح وأنت تستطعم السؤالَ على لسانك: أيكون المطار الوحيد في العالم على اسم شاعرٍ؟ تغادر المكان المحاط بأشجار الزيتون، وسط خلاء جبلي، مسّته يدُ العمل، بالضروري فقط، فحافظَ على مشهديّته المستمدة من الطبيعة ذاتها، ومن شمائل الاسم الذي يحمله.
في الطريق إلى الفندق، تتباسط مع السائق، وأنتما تمرّان عن قرى، فيتحمّس الرجل ويسخو عليك بما في الجراب من معلومات وخبرة، عن جغرافيا المدينة وتاريخها في اللحظة الراهنة.
ترى قمة "سييرّا نيفادا" المكللة بالثلوج، وتستغرب، لأنكما تسيران تحت شمس، ربيعية نعم، ولكنها ساخنة، فكيف لا تذوب الثلوج؟ يضحك السائق ويشرح: تبدأ هذه بالتراكم منذ شهر سبتمبر، ولا تذوب إلا في أغسطس. ثم إنها بعيدة وعالية، فلا يخدعنّك النظر.
تدخل الفندق. تلتفت وإذا في ركن آخر من الصالة، يجلس صاحب "مجنون الأمل" مع رفيقة كفاحه. تعانقهما بحرارة وتهنّئهما على النجاة من حادث السطو الأخير، وتذكّر عبد اللطيف بالكتاب الذي فتنك في شبابك، فاقتنيت منه نُسخاً، وأهديتها لرفاق ذلك الزمن.
يأتي رشيد بوجدرة، الموصوف بصعوبة المراس، ويدور حديث الهمّ العربي، بآخر ما في الصراحة من مدى، في خليط من دارجة مغربية مفصّحة مع الفرنسية، وتلاحظ أن جوسلين تتكلّمها أيضاً.
في الواحدة من هذا الخميس، تنتقلون إلى حيث تجري فعاليات المؤتمر، وتفاجأ بأن المكان يحمل هو الآخر اسم "مركز لوركا"، وقد فُتح قبل سنة ونيّف، في قلب المدينة العامر، ويحتوي على أعمال الشاعر وبعض صوره ورسوماته وما كُتب عنه.
وقبل الافتتاح، يطل من الباب صدفةً، صلاح نيازي، القادم في زيارة لابنته، فتسعى إليه ويعرّفك على زوجته سميرة المانع. يدعوانك إلى المقهى ويحدّثك عن تجربته في ترجمة "يولِسس"، واستغرابه، آنَ انتهى، من عبور هذا الخضمّ! وتحدثك سميرة عما لاقته من متاعب، جراء كتابتها رواية عن مواطنك سعيد حمامي.
يوم الجمعة، تكون زوّغت وتهت في نهار وليل المدينة الساحريْن. يتصلون بك وتكابر وتخبرهم أنك قادم. تعتمد على سؤال المارّة، فيدلّك ثلاثة منهم على "حديقة لوركا"، حتى يأتي رابع وخامس، فيدلانك. فالمشهور هنا هو الحديقة الكبرى القديمة، ومعظم الناس لم تسمع عن المركز الجديد بالقرب من الساحة الرومانية.
تتصل بعد رجوعك بعاصم الباشا، المعتكف في قرية "بورتشيل"، أو "برج هلال" باسمها الأندلسي. وضحى السبت، يأتيك عاصم بالسيارة ويأخذك إلى بيته القروى البسيط والجميل.
ما إن تدخل، حتى تعبر ممرّاً طويلاً، فترى جهدَ سنواتٍ من الكدح: منحوتات مختلفة الأحجام والموادّ، رُتّبت في نظام فنيّ رهيف، يتقدّمها نصبٌ حديدي كبير على فسحة المدخل.
تعبران الصالة، وتسلّم على زوجته وحماته الإسبانية، ثم تختار أن تجلسا على الطاولة في القسم الخلفي من البيت، المفتوح على الحاكورة والفضا.
عاصم يدخن ويشرب، وأنت تسأل وتنصت لفيضٍ مما يختزنه من حكايا وملاحظات وآلام.
تتفقان على لقاء ثان، إن أسعفت الظروف، ويوصلك إلى الفندق. ثم يتصل بعد عودته، ويخبرك أنك نسيت حقيبتك القماشية، وأنه سيمرّ ويُعيدها. تشكره، فقد ظننت أن فيها ورقة الإقامة والتذكرة، ولما تراها بعدئذ، تضحك من المفارقة، لأنّ ما فيها من تبغ غليون وملاليم، لا يستحق جهد السياقة وحرْق البنزين!
عاصم الذي تعرف من قبل، وهو أخبرك أيضاً، أنه لا ينزل المدينة، إلا اضطراراً.
عاصم المتماهي مع فنّه القادم من الأحشاء، حتى صارت تقاطيع وجهه منحوتة كبيرة للألم!
في المساء تلتقي نوال السعداوي، وهي تحمل على كاهلها ثقل 85 عاماً من النضال والتنوير، وتعجبك حين تتكلم في محاضرتها عن البطريركية والكولونيالية اللتين توحشتا في حكم العالم، مفتتحة حديثها بتقريع إدارة المهرجان لعدم إدراج الترجمة إلى العربية أسوةً باللغات الأخرى، ومتهمة إياهم باحتقار اللسان العربي، فيصفق لها الجمهور الحميم، بينما ينكمش الإداريون والمشرفون.
أربعة أيام، استرقت منها ما استطعت، خارج الأجندة، لتكتشف ما يتيّسر لك من تفاصيل، وحدك. لففت المدينة بالساعات، وغفوت على كراسي حدائقها منصتاً لغناء الشحرور. ومشيت في مظاهرة أول أيّار مع الرفاق المخذولين. وقت رأيت فيه لأول مرة، معالمَ وأوابد مدينةٍ سكنتك من قديم، عبر سحر القراءة، وها أنت تتشرّب سحر واقعها على مهل.
ساعتان تحت شمس الظهيرة في شارع أفينيدا البهيّ، تقضيهما متفيئاً ظل شجرة على الكرسي المقابل لنصب الشاعر النحاسي، تتأمله مأخوذاً باللحظة، وهو ينظر للبعيد، واضعاً رجلاً على رجل، وعلى فخذيه ديوان "الأغاني الغجرية"، بينما عشاق وسيّاح يجلسون على كرسيّه الذي يتسع لاثنين، ملتقطين الصور.
أما وراء النصب، فتطلّ تلك الكنسية العتيقة من مرتفع، بحديقتها وورودها الجورية الكبيرة وأشجار أرزِها ونافورة الماء البديعة، فيما عائلات بأكملها ترقص في دائرة على أنغام حيّة يؤدّيها عازفون.
ها قد ذهب الطاغية الذي قتلك ولم يكن يعرف حجم موهبتك. وها هي مدينة بأسرها تحمل وسمك واسمك، حتى يمكن القول، إنها لك، أيها الشاعر.
فشكراً يا غرناطة: شكراً على دفء ناسك الذين يشبهوننا، على مشمشك فائق المذاق وماء سبيلك المثلّج. شكراً لأنك أريتِني أصدقاء من بلادي، قرأت لهم منذ عقود، وها أنا أتعرّفهم، ممضين الليالي حتى انتصافها في شؤونك وشجوننا.