هاني عباس... الكاريكاتير موقف إنساني

03 مايو 2015
رسام الكاريكاتير هاني عباس(العربي الجديد)
+ الخط -
كيف لذلك "الطفل"، المولود في مدينة الياسمين، دمشق، أن يعيد غرس قلقه في مدن أخرى، وهو الفلسطيني الذي فهم أن حريته لا تكون بدون حرية الآخر، فما بالك إذا كان هذا الآخر "مني وأنا منه"؟
"لا علاقة لي بالمدن" يقول هاني، "وإن مررت على كثير منها، طفولتي ذاكرة مشبعة بالمخيم، بأنك لاجئ في الولادة والموت". مشهد الموت ليس جديدا على هاني فهو صاحب الذاكرة المشبعة بجد يحتضر حين أحضروا له جهاز تسجيل ليروي سيرته على فراش الموت. فأي موت بالنسبة لهاني هو "نبش للذاكرة، مثلما المكان يتحول إلى غرفة إنعاش ريثما تروى سيرة الحياة".
الصورة المتدفقة عن الأمكنة التي دمرت، عن الحارات المهجورة وأصوات الناس المرعوبة "كلها تقتحمني في نومي ويقظتي".
إنها طفولة "قريبة من مقبرة شهداء"، وسقف العالم بالنسبة لهاني عباس "لم يكن أعلى من جدران تتزين ببوسترات الثورة الفلسطينية تزاحم صور شهدائها".
عالم الحكايات يتوسع بدهشة طفل يجلس قرب جدته "تروي حكايات البلاد... كيف كانت فلسطين... وكيف أصبحت أقرب إلي في خيالي وواقعي ولعبي الطفولي".
هي بوابة "خربشات" هاني في مراهقة شبت عن طوقها، فالرسم كان متنفسا وحرية بالنسبة له على كتب مدرسية لتتدفق مشاعر بلا قيود.
علاقة هاني بفن الكاريكاتير توثقت حين كان في الثامنة عشرة، وهو يقول عنها "حين لم أكن أحب نقل الصور والمشاهد، كتلميذ في مدرسة التصوير، فقد فهمت لاحقا مسميات ما كنت أقوم به بأنه انطباعي. في أوائل التسعينيات بدأت البحث عن مصادر لصقل تجربتي، لم تكن الحالة تسمح بإيجاد أو اقتناء كتب وحتى جريدة. ورغم ذلك بقيت مصرا على تطوير تجربتي الخاصة بنفسي. بعدها تعرفت إلى مدارس فنية عديدة كالمدرسة الأوروبية الشرقية الرمزية بامتياز".
هاني ما يزال ملتصقا بحرية الناس وهمومهم، فهو يقول: "الأشياء تعرف بنقيضها، لا يمكننا تعريف الضوء إن لم يكن هنالك ظلام. وقياساً، فإن انتهاك حرية الانسان يجعلك تتعرف أكثر إلى الانسان كقيمة. إنه الموت، الذي يجعلك تتعرف إلى الحياة".
يضيف "مع بداية الثورة في سورية ومن خلال مشاهداتك الشخصية ومعرفتك بما يحصل من انتهاك للإنسان صرت شيئاً فشيئاً أتعرف وأشعر وأرسم عن الانسان وحريته وحقوقه... للأسف... هل كان يجب أن يحصل كل هذا لنشعر بقيمة الإنسان؟ هل كان يجب أن يعتقل المئات لنعرف معنى الحرية؟ هل كان يجب أن يموت الآلاف لنعرف قيمة الحياة؟ هل يجب علينا أن نموت الآن لأننا وصلنا متأخرين لهذه القيم؟".
هاني عباس يجيب عن تلك الأسئلة، في غربة أخرى أوصلته إلى جنيف "بحزن" كما يقول، وبدون تردد يفهم دوره في هذه الغربة بالقول: "الإنسان لا يتجزأ بصفته المطلقة ولكن يصنف من خلال مواقفه وأفكاره وأعماله بقياسها لإحساسه الإنساني".
في غربته السويسرية لا يقطع هاني حبله السري في ما صقل شخصيته "فأنا ابن مخيم بكل ما للمعنى من كلمة، وكما قلت المدن عندي حيوات، وما يهمني عائلتي وشعبي ثم زوجتي التي شجعتني في طريقي، وولدي الصغير الذي أحاول في غربتي هذه أن أجعله حرا وبكرامة ككرامة ما يليق بنا".
ورغم الحزن الذي تلمسه عند هاني، كمضطر إلى هجرة أخرى، فهو في مشواره الطويل مع القلم والريشة وجد نفسه يقوم بمهمة طالما اعتبرها مهمة في حياة اي مهاجر: "لا تقعد... اعمل وقدم ما تستطيع، أي جهد سيلبي في النهاية مقومات حريتنا. إن تحمل المسؤولية في المهجر تبنِ مستقبلنا الفردي والجماعي".
وبالنسبة للرسم فإن هاني يراه "تعبيرا عن ذلك الحزن والغضب وبذات الوقت محاولة لاختراق جدار التعتيم من أجل التحشيد لقضية العدالة".
وبالرغم من مصاعب الغربة الكثيرة، لم يقف هاني عباس عندها، ففي سنوات قليلة جدا احتل حيزا في مجاله الفني مقدما رسومه إلى مجلة "إيبدو" السويسرية و صحيفة ”لا ليبرتي" في فريبورغ، ومن خلالها كما يقول تعرفت إليه سويسرا. هي التي نشرت إحدى رسماته على الصفحة الأولى بمناشيت يعرف به.
وبالرغم من أنه عمل في السابق مع الجزيرة في نشر الكاريكاتير ومع صحيفة لبنانية، إلا أن عباس يجد مهمته في سويسرا تستحق. وهو يؤمن بأن ما يقدمه في صحافتها وصحف أوروبية أخرى يعرف "بمأساة شعبي السوري والفلسطيني"، وبالفعل ليس هناك ما يمر دون أن يكون له بصمته فيه، بلا كلمات كثيرة يقدم الصورة على حقيقتها كما في لوحته الأخيرة عن غرق مئات اللاجئين في المتوسط حيث رسم ساعة رملية يتساقط منها الضحايا وقسمها الأعلى على شكل زورق خشبي. نشرتها "إيبدو" ببضع كلمات تعبر عن سنوات وأشهر وأيام المأساة المستمرة.

ما يخفف على هاني غربته في جنيف هو الوجوه العربية التي يراها يوميا، بل ويقول: جنيف تشبه بيروت ودمشق، وبالرغم من أنك منذ أكثر من 3 سنوات لم ترهما، فأنت وكأنك حملتهما معك، فأنت دائم التواصل مع ناس دمشق ومخيمها المحاصر، وكأنك لم تغادر سوى لمهمة واحدة... أن تكون في طريق الإخلاص لهؤلاء الذين بقي كيانك معلقاً بينهم".
يتلقف المئات على مواقع التواصل الاجتماعي رسومات هاني الكاريكاتيرية وكأنها بلا كلام كثير تعبر عما يجول فيهم وبينهم. ورحلة الغربة لهاني، وبالرغم من أنها ليست طويلة، فقد أنتجت 7 معارض في سويسرا بزمن قياسي ظن زواره بأن الرجل الذي يشبههم هو مولود هناك وليس قادماً قبل سنوات قليلة. اختياره التواصل بالرسم مع مجتمعات لم يكن يجد لغتها أوصل الكثير من الرسائل في مجتمع بات يتلقف عبر صحافته أعماله ويتابعها عن كثب، لكونها ترصد مشاعر الكرامة الإنسانية التي هي مطلب كل مجتمع حر وديمقراطي.
المساهمون