لقد سحبت النواعير جثثاً كثيرةً وهذا سبب أنينها(مواقع التواصل)
أقفُ عند النواعير، أسمع صريرها كما لو أنَّها تكتبُ تاريخ هذا النهر، تزكمُ أنفي رائحةٌ تُثير بي رغبةً في التقيؤ، سريعاً اجتزتُ المسافة الفاصلة بين مشهدي ومشهد شخصٍ آخر وقف قبلي هنا في ثمانينيات هذه المدينة، مدينة حماة، هذه المدينة التي ما إنْ تدخلها حتَّى يقول لكَ كلُّ شيءٍ فيها:"في حماة أيّ حجرٍ ترفعه ستجد تحته جثَّة".
النَّهر يمشي ومن يقف في مشهدي كان يمشي ويُحدِّقُ بي دون أن أراه.
قال لي جدِّي: "لقد سحبت النواعير جثثاً كثيرةً وهذا سبب أنينها". الشَّخص الَّذي سرق مشهدي يهزُّ برأسه وينظر مكاني.
مشيْتُ داخل حديقة أمِّ الحسن أُراقبُ عراء هذا النهر، ضياعه، ماءه الأسود الخالي من كلِّ حياة، والذي لا يصلح حتى لغسيل السيَّارات.
قالتْ لي أمِّي:"كنَّا نشربُ من نهر العاصي و نأكل من سَمَكه".
وافقها أبي وقال: "كنَّا نرى السَّمكة وهي تمشي تحت الماء وكنَّا نرمي قطعة نقودٍ ونغطس، ومن يجلبها يفز. كنَّا نراها تحت الماء".
أكملتْ جدَّتي بجرأة العجائز: "كان النهر حمَّام النساء، فيه يسبحنَ ويغتسلْنَ ويلعبْنَ وكلُّ عروسٍ لا تُزفُّ إلى عريسها إلَّا إذا خضعتْ لاختبار العاصي، وهو أن تذهب إلى النهر وتملأ جرَّتها من مائه".. وأردفتْ ضاحكةً وهي تنظر إلى أبويَّ: "كلُّ الزِّيجات في حماة قرأ فاتحتها أولاً نهر العاصي".
هذا النهر الذي تمرَّد على جميع أنهار بلدي، من قتله؟
قال جدِّي: "النهر قبل 1970 كان صافياً نقيَّاً وبعد استيلاء حافظ الأسد على السُّلطة بدأتْ مياه النهر تسودُّ".
ضحكَ عمِّي وقال: "كان النَّاس يُجبَرون على الفرح بمنجزات الحركة التصحيحيَّة وكان النهر يأكل الغائط".
وضحكوا جميعاً بمن فيهم أنا الطفل ولم أعرف وقتها أنَّه كان صادقاً في ما قال.
قبل 1970 كان سهل الغاب الذي يمرُّ فيه نهر العاصي ويُغذِّيه بمائه - حين كان حيّاً - من أغنى بقاع العالم بالثَّروة السَّمكيَّة، إلى أن قام حافظ الأسد بتجفيف المستنقع، الكارثة التي خنقت الحياة هناك، وقد اعترض عددٌ من المهندسين على هذا المشروع ومن يومها لم نسمع عنهم خبراً.
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المياه تلعب دوراً مهماً في القرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما بدا واضحاً حين قامتْ تركيا بقطع مياه نهر دجلة والفرات، للضغط على الحكومة العراقيَّة للضغط على الأكراد في شمال العراق، وأيضاً ما حصل بين سورية وتركيا حين قامت الأخيرة بقطع مياه روافد الفرات عن سورية، والذي تسبَّب في جفاف هذه الأنهار وبالتالي تصحُّر الأراضي المحيطة بها.
وأيضاً ما حصل بين الكيان الإسرائيلي والأردن من خلافٍ دائمٍ على مياه نهر اليرموك، وأيضاً الصراع الدائم بين الكيان الإسرائيلي والفلسطينيين.
كل هذه الشِّجارات المائيَّة توحي بأنَّ الماء هو القنبلة الموقوتة في الشرق الأوسط.
الأنهار في سورية تلوَّثتْ خلال فترةٍ زمنيَّةٍ محدَّدة، وهي الفترة التي تزامنتْ مع استيلاء حافظ الأسد على السُّلطة، ممَّا يوحي بأنَّ تلويثها كان نتيجة قرارٍ سياسيٍّ وسلطويٍّ بحت لأنَّ المتتبِّع للسياسة الاقتصاديَّة لحافظ الأسد في سورية يرى أنَّها كانت تقوم على التجويع، وأيضاً التعطيش، ولو بصورة محدودة. سياسة التعطيش تلك قامت على تلويث مصادر المياه الرئيسية وجعل مياه الشرب حكراً على مؤسسات الدولة، والتي تتحكَّم فيها أفرع الأمن والمخابرات ليسهل عليهم إخضاع الناس في حال تمردهم، وهذا ما حصل حين قامت المخابرات بتسميم مياه الشرب في الزبداني ودوما وجسر الشغور في إدلب، وكفرزيتا في ريف حماة.
أقفُ أمام النواعير في ساحة العاصي، الجماهير المحتشدة تُردِّدُ خلف القاشوش "يلَّا ارحل يا بشار"، وأنا أنظر إلى النواعير التي أخفتْ أنينها لفرحٍ كم انتظرته وهي تعلم أنَّها ستعود لسحب الجثث، كما كانت تفعل في الثمانينيات.
من أخذ مشهدي مني يراقبُ الناس الهلعة الهاربة من جحيم القصف، النظام حاصر المدينة من جميع منافذها وقام بفتح السدود التي أغرقت جزءاً كبيراً من المدينة. الناس ينزحون، نزح من نزح عن طريق العبور المميت لنهر العاصي، ومن لم يستطع العبور ذُبِحَ وأُلقيتْ جثَّته في النهر.
أعيدُ مشهدي منه ذاك المتطفِّل على تلفاز ذاكرتي.
حلفايا مدينةٌ تقع في ريف حماة الشمالي، وتُطلُّ على نهر العاصي. الناس الهلعة والهاربة من جحيم القصف، وقد حاصرها النظام من جميع جهاتها باستثناء جهة العاصي، وعليهم لكي ينجوا بأرواحهم أن يعبروا النهر، الذي بلغ أعلى ذروة له في الفيضان بعد فتح السدود. بقاربين صغيرين سيعبر النهر 30000 نسمة.
الناس يحتشدون على ضفَّة النهر ويُزاحمون بعضهم على الهروب. تقترب طائرة من المكان وتُسقط برميلين فوق الحشد. وكانت مجزرةً اختلطت الأشلاء ببعضها بعضاً، وعُمِّدتْ جميعها بالماء القتيل.
أنا الآن أقفُ أمام نهرٍ في ألمانيا. أنظرُ إلى السَّمك يلعب في مائه الحي. أخلع ثيابي وأسبح في مائه العذب الصافي مأخوذاً بجمال كل شيءٍ من حولي. هنا كل شيءٍ يقول لك: "تحت كلِّ حجرٍ في ألمانيا تجد الحياة".
(سورية)
النَّهر يمشي ومن يقف في مشهدي كان يمشي ويُحدِّقُ بي دون أن أراه.
قال لي جدِّي: "لقد سحبت النواعير جثثاً كثيرةً وهذا سبب أنينها". الشَّخص الَّذي سرق مشهدي يهزُّ برأسه وينظر مكاني.
مشيْتُ داخل حديقة أمِّ الحسن أُراقبُ عراء هذا النهر، ضياعه، ماءه الأسود الخالي من كلِّ حياة، والذي لا يصلح حتى لغسيل السيَّارات.
قالتْ لي أمِّي:"كنَّا نشربُ من نهر العاصي و نأكل من سَمَكه".
وافقها أبي وقال: "كنَّا نرى السَّمكة وهي تمشي تحت الماء وكنَّا نرمي قطعة نقودٍ ونغطس، ومن يجلبها يفز. كنَّا نراها تحت الماء".
أكملتْ جدَّتي بجرأة العجائز: "كان النهر حمَّام النساء، فيه يسبحنَ ويغتسلْنَ ويلعبْنَ وكلُّ عروسٍ لا تُزفُّ إلى عريسها إلَّا إذا خضعتْ لاختبار العاصي، وهو أن تذهب إلى النهر وتملأ جرَّتها من مائه".. وأردفتْ ضاحكةً وهي تنظر إلى أبويَّ: "كلُّ الزِّيجات في حماة قرأ فاتحتها أولاً نهر العاصي".
هذا النهر الذي تمرَّد على جميع أنهار بلدي، من قتله؟
قال جدِّي: "النهر قبل 1970 كان صافياً نقيَّاً وبعد استيلاء حافظ الأسد على السُّلطة بدأتْ مياه النهر تسودُّ".
ضحكَ عمِّي وقال: "كان النَّاس يُجبَرون على الفرح بمنجزات الحركة التصحيحيَّة وكان النهر يأكل الغائط".
وضحكوا جميعاً بمن فيهم أنا الطفل ولم أعرف وقتها أنَّه كان صادقاً في ما قال.
قبل 1970 كان سهل الغاب الذي يمرُّ فيه نهر العاصي ويُغذِّيه بمائه - حين كان حيّاً - من أغنى بقاع العالم بالثَّروة السَّمكيَّة، إلى أن قام حافظ الأسد بتجفيف المستنقع، الكارثة التي خنقت الحياة هناك، وقد اعترض عددٌ من المهندسين على هذا المشروع ومن يومها لم نسمع عنهم خبراً.
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المياه تلعب دوراً مهماً في القرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما بدا واضحاً حين قامتْ تركيا بقطع مياه نهر دجلة والفرات، للضغط على الحكومة العراقيَّة للضغط على الأكراد في شمال العراق، وأيضاً ما حصل بين سورية وتركيا حين قامت الأخيرة بقطع مياه روافد الفرات عن سورية، والذي تسبَّب في جفاف هذه الأنهار وبالتالي تصحُّر الأراضي المحيطة بها.
وأيضاً ما حصل بين الكيان الإسرائيلي والأردن من خلافٍ دائمٍ على مياه نهر اليرموك، وأيضاً الصراع الدائم بين الكيان الإسرائيلي والفلسطينيين.
كل هذه الشِّجارات المائيَّة توحي بأنَّ الماء هو القنبلة الموقوتة في الشرق الأوسط.
الأنهار في سورية تلوَّثتْ خلال فترةٍ زمنيَّةٍ محدَّدة، وهي الفترة التي تزامنتْ مع استيلاء حافظ الأسد على السُّلطة، ممَّا يوحي بأنَّ تلويثها كان نتيجة قرارٍ سياسيٍّ وسلطويٍّ بحت لأنَّ المتتبِّع للسياسة الاقتصاديَّة لحافظ الأسد في سورية يرى أنَّها كانت تقوم على التجويع، وأيضاً التعطيش، ولو بصورة محدودة. سياسة التعطيش تلك قامت على تلويث مصادر المياه الرئيسية وجعل مياه الشرب حكراً على مؤسسات الدولة، والتي تتحكَّم فيها أفرع الأمن والمخابرات ليسهل عليهم إخضاع الناس في حال تمردهم، وهذا ما حصل حين قامت المخابرات بتسميم مياه الشرب في الزبداني ودوما وجسر الشغور في إدلب، وكفرزيتا في ريف حماة.
أقفُ أمام النواعير في ساحة العاصي، الجماهير المحتشدة تُردِّدُ خلف القاشوش "يلَّا ارحل يا بشار"، وأنا أنظر إلى النواعير التي أخفتْ أنينها لفرحٍ كم انتظرته وهي تعلم أنَّها ستعود لسحب الجثث، كما كانت تفعل في الثمانينيات.
من أخذ مشهدي مني يراقبُ الناس الهلعة الهاربة من جحيم القصف، النظام حاصر المدينة من جميع منافذها وقام بفتح السدود التي أغرقت جزءاً كبيراً من المدينة. الناس ينزحون، نزح من نزح عن طريق العبور المميت لنهر العاصي، ومن لم يستطع العبور ذُبِحَ وأُلقيتْ جثَّته في النهر.
أعيدُ مشهدي منه ذاك المتطفِّل على تلفاز ذاكرتي.
حلفايا مدينةٌ تقع في ريف حماة الشمالي، وتُطلُّ على نهر العاصي. الناس الهلعة والهاربة من جحيم القصف، وقد حاصرها النظام من جميع جهاتها باستثناء جهة العاصي، وعليهم لكي ينجوا بأرواحهم أن يعبروا النهر، الذي بلغ أعلى ذروة له في الفيضان بعد فتح السدود. بقاربين صغيرين سيعبر النهر 30000 نسمة.
الناس يحتشدون على ضفَّة النهر ويُزاحمون بعضهم على الهروب. تقترب طائرة من المكان وتُسقط برميلين فوق الحشد. وكانت مجزرةً اختلطت الأشلاء ببعضها بعضاً، وعُمِّدتْ جميعها بالماء القتيل.
أنا الآن أقفُ أمام نهرٍ في ألمانيا. أنظرُ إلى السَّمك يلعب في مائه الحي. أخلع ثيابي وأسبح في مائه العذب الصافي مأخوذاً بجمال كل شيءٍ من حولي. هنا كل شيءٍ يقول لك: "تحت كلِّ حجرٍ في ألمانيا تجد الحياة".
(سورية)
تابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
المزيد في مجتمع
