أكثر ما يلفت في افتتاح السفارة الأميركية في القدس، اليوم الإثنين، هو الاستفزاز المتعمد الذي يطبع الاحتفال بتدشينها، فواشنطن حرصت على تحويل المناسبة إلى شبه عيد وطني، تشارك فيه بوفد غير اعتيادي، رسمي ولاهوتي وقيادي ويحمل بحجمه وتركيبته أكثر من دلالة ورسالة.
250 شخصية؛ من بينهم 40 من مجلسي الكونغرس، وعدد من الوزراء وكبار المسؤولين، ورؤساء منظمات يهودية أميركية، ورجال دين معروفون بخطابهم الموتور تجاه العرب والمسلمين، جرى ضمّهم إلى الوفد ليفتتحوا الاحتفال بالدعاء والتبريكات!.
وكاد أن ينضم إلى هؤلاء، الرئيس دونالد ترامب الذي كان قد أعرب عن رغبته في المشاركة شخصياً في الاحتفال، لكن يبدو أنّ مشاغل اللحظة والاعتبارات البروتوكولية حالت دون حضوره. وقد استعاض عن ذلك بكلمة يوجهها بالفيديو إلى المحتفلين. ويُذكر أنّه كان قد رفض المشاركة بأي شكل في تدشين السفارة الأميركية الجديدة في لندن، في يناير/كانون الثاني الماضي، بالرغم من العلاقة التاريخية الخاصة التي تربط بريطانيا بواشنطن، فالزمن الأميركي الراهن، إسرائيلي الهوى أولاً.
غير أنّ المبالغة في المشاركة والمراسم الاحتفالية، لا تلخص الحدث وإن ميّزته. فنقل السفارة، تنبع أهميته الفعلية بالنسبة لإدارة ترامب، من كونه بنداً هاماً في أجندتها الشرق أوسطية، والتي تبلورت بآخر صورها بعد مجيء جون بولتون إلى البيت الأبيض، ومايك بومبيو إلى وزارة الخارجية. فحواها أن يُصار إلى استبدال الصراع العربي – الإسرائيلي، بالصراع العربي – الإيراني، بحيث يتم وضع الأول على الرف، ومنح الأولوية للثاني.
يستتبع ذلك رفع وتيرة التطبيع الإسرائيلي مع دول خليجية، لبناء تحالف بين الجانبين، في خدمة المواجهة الجديدة التي بدأت تطل برأسها من البوابة السورية. ولم يكن صدفة أن يتم، قبل يومين، تسريب خبر لقاء سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أثناء زيارة الأخير للعاصمة الأميركية، في مارس/آذار الماضي.
فالتوقيت مناسب مع بدايات الصدام الإسرائيلي الإيراني، لكشف مثل هذا اللقاء الآن، من أجل تسهيل نشر ثقافة التلاقي الخليجي – الإسرائيلي، من باب أنّه خيار تفرضه البراغماتية السياسية المطلوبة، حسب الترويجات المتوالية في المدة الأخيرة.
وبذلك يكون شعار "صفقة القرن" قد تكشف على حقيقته. وفي القلب منه تكمن عملية التطبيع العربي الإسرائيلي، بحيث يصير إلى عزل القضية الفلسطينية عن محيطها وسندها الرئيسي، بعد نسج التحالف الجديد، وربطه بوحدة المصالح التي تفرضها وحدة المواجهة.
في بداية عهده طرح ترامب هذا الشعار بصورة فضفاضة. أوحى من خلاله أنّ إدارته عازمة على تحقيق تسوية سلمية بين إسرائيل والفلسطينيين. وتعزّز هذا التصوّر الواهم، عندما كلّف ترامب صهره جاريد كوشنر بهذا الملف، بزعم أنّ صداقات الأخير في إسرائيل، وثقتها به كواحد من أهلها، توفّر له فرصة لم تتوفر لغيره، لإنجاز مثل هذه المهمة السلمية.
إشاعة استبشر بها البعض، وبسذاجة لم يطل الوقت حتى تبيّن له كم كانت واهية، وكم كانت خيبته كبيرة، عندما انقلب ترامب على مزحته، واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل!.
وزير الخارجية مايك بومبيو، تولّى، أمس الأحد، في عدة مقابلات، الدفاع عن القرار بزعم أنّ عملية السلام "لم تمُت" بعد الاعتراف بالقدس ونقل السفارة. زعم لا يتعامل معه أحد جدياً، حتى في واشنطن، إلا إذا كان قصده "السلام" الإسرائيلي المناقض للسلام الحقيقي.
قد يسهل على ترامب تسويق قرار نقل السفارة، وتوظيفه سياسياً لدى رأي عام داخلي؛ مشحون إجمالاً بثقافة الانحياز اللاواعي لإسرائيل. لكنّ العارفين بشؤون السياسة الخارجية، وبالتحديد في الشرق الأوسط، وحتى بعض المؤيدين منهم لإسرائيل (مثل آرون ميلر عضو الفريق الأميركي المشارك في مفاوضات السلام في التسعينيات) أبدوا تحفّظهم على القرار "الخاطئ بتوقيته ومضمونه"، تماماً كما سجلت هذه الأوساط وغيرها، اعتراضها على الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.