نفق الأزمات في تونس

21 يوليو 2020

تونسيون يحتجون في العاصمة على أداء البرلمان والحكومة (4/6/2020/Getty)

+ الخط -

استقال رئيس الحكومة التونسية، إلياس الفخفاخ، نهاية يوم الأربعاء 15 يوليو/ تموز الحالي، وهو اليوم الأشد وقعاً على أعصاب التونسيين منذ اندلاع ثورتهم 2011. وقد عُمِّرَت حكومة الفخفاخ أربعة أشهر ونصف شهر، وهي الأقصر عمراً في حكومات ما بعد الثورة، وكان سقوطها متوقعاً، فقد كانت حكومة زواج بنيّة الطلاق! وقد تراكمت أسباب عديدة لسقوطها، لعل أهمها، إجرائياً، يعود إلى رئيسها الذي تموقع برلمانياً في غير المكان المناسب، بعجزه المعلن عن ربط علاقات طيبة مع مختلف الكتل البرلمانية، وإعلانه النفير إلى اللحظة الأخيرة مع الكتل البرلمانية (حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة). هيكلياً، جاء تكليف إلياس الفخفاخ بعد سقوط حكومة الحبيب الجملي (مرشح "النهضة") في جلسة منح الثقة من البرلمان. والثابت أن "النهضة" قبلت على مضض اختيار رئيس الجمهورية الفخفاخ لرئاسة الحكومة، على اعتبار أنه الأقدر على هذه المهمة، وهو من خارج "النهضة"، وليس في جرابه من المؤيدات الانتخابية والسياسية ما يؤهله لهذه المهمة. لكن ذلك الاختيار لم يثن "النهضة" عن المطالبة بإعطاء الحقائب بناءً على الوزن البرلماني لكل حزب، والسعي إلى إخضاع رئيس الحكومة نفسه من أجل المطالبة بالتراجع عن استبعاد "قلب تونس" من حكومته، الحزب الذي كانت "النهضة" تصنفه في خانة الثورة المضادة، ولكنها اعتمدت عليه في الفوز برئاسة البرلمان. ولم تقبل الحركة، التي ظلت في الحكم منذ 2011، ألّا يكون لها نظر في الحكومة بأسرها، على الرغم من أن رئيس الجمهورية هو الذي اختار رئيسها في ما عُرف بـ"حكومة الرئيس".

قبلت "النهضة" على مضض اختيار رئيس الجمهورية الفخفاخ لرئاسة الحكومة، على اعتباره الأقدر على هذه المهمة

برزت في مرحلة ثانية خلافات كانت متوقعةً، هي الأخرى، بين حركة النهضة والائتلاف المشكّل للحكومة، وخصوصاً مع حركة الشعب، ذات المرجعيات العروبية الناصرية، والتيار الديمقراطي، وشق من ممثلي حزب تحيا تونس، ما جعل "النهضة" تطالب بتوسيع "الائتلاف" الحاكم " حفاظاً على استقرار الحكومة وتحقيقاً لتوازنات ضرورية داخلها". طلب رفضه رئيس الحكومة، استبعاداً لتشريك حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة فيها، ما أجّج الصراع بين رئيس الحكومة و"النهضة" لتبرز المناكفات بين الطرفين إلى العلن، ليتفجر، في الأثناء، ملف ما سميت "الفخفاخ غيت"، أو شبهة تضارب المصالح. وهو ملف أنهى صراع الفخفاخ مع "النهضة"، وأنهى تجربته القصيرة نسبياً في الحكم، وربما في السياسة أيضاً. وقد استقال بطلب من رئيس الجمهورية، لتسبق استقالته لحظات برلمانية حاسمة، في طريق عرض لائحة تسحب الثقة منه، وبالتالي من حكومته، ما أعاد المبادرة إلى رئيس الجمهورية، ليرشح في غضون عشرة أيام شخصاً آخر قادراً على تشكيل الحكومة. وموضوعياً، يعتبر خروج الفخفاخ مهيناً، فقد كان في وسعه أن يتجنب ذلك، بتغليب منطق التواضع والحوار، وكان، وهو المتعلقة به شبهة فساد، يمكنه أن يفوّض مهامه إلى حين استكمال التحقيقات، كما كان في إمكانه أن يعترف ويعتذر عمّا بدر منه من أخطاء، ولكنه اختار سياسة الهروب إلى الأمام، وحرب الكل ضد الكل.

حكومة ما بعد الفخفاخ، كيفما كانت، محاصصة حزبية أو تكنوقراط، لن تمضي بعيداً في طريق إنقاذ تونس في ظل برلمان مشتَّت

وعلى الرغم من قصر عمرها، راكمت رئاسة الفخفاخ الحكومة أخطاءً كثيرة، ولكن نتائجها تؤشر على معطيات أكيدة في المشهد السياسي الذي أدخل التونسيين في نفق من الأزمات، تلد فيه أزمة أزمةً أخرى، فهم يعيشون اليوم تداعيات أزمة سياسية أعمق من تداعيات أزمة كورونا. ولا يمكن الخروج من هذه الأزمة مع الإبقاء على أهم عناصرها، حكومة ما بعد الفخفاخ التي ستليها، كيفما كانت، حكومة محاصصة حزبية أو حكومة تكنوقراط، لن تمضي بعيداً في طريق إنقاذ البلاد في ظل برلمان مشتَّت، تشوبه تناقضات قاتلة. تتصارع فيه حروب هويات ولوائح لإسقاط رئيسه، وإلغاء شق من التونسيين (قادة حركة النهضة وناخبوها) حقهم في الوجود، نتيجة نظام سياسي اتضح فشله، وجعل البلاد رهينة بين الخصوم السياسيين وأصحاب عقلية الغنيمة، بعيداً عن هموم التونسيين والتحدّيات التي يواجهونها اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، ما يستوجب السعي إلى إعادة بناء المنظومة السياسية برمتها، بتنقيح النظام الانتخابي، وإدخال التعديلات الدستورية الضرورية لإرساء حدٍّ لثنائية السلطة التنفيدية.

 يسعى رئيس الجمهورية خلال العشرة أيام المتاحة له دستورياً لإجراء المشاورات اللازمة، بهدف الاتفاق على شخصية وطنية مستقلة

في انتظار ذلك، يذهب حكماء وخبراء إلى أن يسعى رئيس الجمهورية خلال العشرة أيام المتاحة له دستورياً لإجراء المشاورات اللازمة، بهدف الاتفاق على شخصية وطنية مستقلة، لديها دراية بأوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية، وعلاقات دولية متينة، ورؤية إصلاحية متناسقة، يعطى صلاحيات لتشكيل حكومة من الكفاءات، مع دعوة الكتل البرلمانية إلى منح الثقة لهذه الشخصية وفريقها، على أساس برنامج واضح، على أن يُقيَّم أداؤها بعد سنة، مع الاتفاق، خلال هذه الفترة، على شخصية تجميعية لرئاسة البرلمان، حتى يتم نزع، قدر الإمكان، أسباب الخلافات والنزاعات التي جعلت البرلمان ينحرف عن مساره الطبيعي، والأهداف التي بعثت من أجلها البرلمانات في الديمقراطيات الناشئة.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي