نعيم شريف... في الإمتاع والمؤانسة

02 يونيو 2019
+ الخط -
الإمتاعُ والمؤانسة لأبي حيّان التوحيدي، كتابٌ يمتعُ ويفيد، قرأته مبكراً، يجمعُ أطرافاً من الفكرِ والفلسفةِ واللغةِ والسياسةِ ومباهج أخرى، تدنيك منه بلاغةٌ عالية، وسردٌ مشوق، وفكاهةٌ محببة، ونقدٌ جريء.

وقع النظرُ، أول ما وقع، على العنوان، لما فيه من غرابة جميلة، وبدا لي تجنيساً جديداً، وليس عنواناً حسب، يؤشر هذا الضربَ من الكتابةِ المختلفة عن دلالةِ المسامراتِ، في الرؤيا والغرض والمضامين، وإن اقتربت من أساليبِ الأداءِ، واتّخاذ الليالي زمناً للسردِ، والحوارِ، واعتماد ثنائية المجالسة، فهي كتابةٌ تتنوعُ بتنوع منابعها، وتتسع باتّساع مصادرها، موزعة على ليالٍ قصار، ثماني وثلاثين ليلة، لكلّ ليلةٍ حكاية خاصة.

عاشَ أبو حيّان عصراً ثقافيّاً مختلفاً، في القرن الرابع الهجريّ، وكانَ على مقربةٍ من الوزير، مثيل كتّابٍ آخرين، وقد اعترف التوحيدي بمكافأة هذا المسعى، بمُقايضة الكتابة بالمال، غير أنه، ورغم هذا، دوّن ما دوّن من حكاياتٍ تنيرُ مرحلةَ تاريخٍ ما، وتكشفُ خفايا مجتمعٍ، وتعرّف بأدوار وشخصياتٍ، وتعرّي مواقفَ رفاقِ الموائد، أعني الكتّاب!


بعيداً عن هذا، فلستُ معنياً بأبي حيّان، الأديب الفيلسوف، بقدر العناية بنعيم شريف الأديب المثقف، وما يكتبُ من إمتاعٍ ومؤانسةٍ، بدءاً بعالمه القصصي، وصولاً لمقالاته العاليةِ، في اللغةِ والأداءِ، وهي ترصدُ الموقفَ الثقافيّ في صدقه وتهافته.

في العراق، و يا للأسى!، تتشابه الأحداث، وتتقاربُ المصائرُ، فما حدثَ في عصرِ أبي حيّان، يحدثُ دائماً، ومن المفارقات المألوفة، أن الكتّاب، كتّاب الموائد، كُلّما تداعى قصر امبراطور، شيدوا آخر بجواره، حتى يختنقَ الهواءُ بالغبارِ، ويموتُ من يموت بأنقاض الخيبة!!، وعلى مقربةٍ من هذا، يقفُ نعيم شريف، مثقفاً من طرازِ النخبةِ، كاتب القصةِ والمقالةِ، ليضعَ "العالم السفلي" أمام القارئ، في قصصٍ و مقالاتٍ، وببسالة لا يشوبها ريب.

في المجموعة القصصية "عن العالم السفلي" مثالاً، يُعنى نعيم شريف بمصائر الأرواح المعذبة، المطاردة بكوابيس اليقظة، سواء أكانت المصائر نتيجة حرب، أم قتل، أم يأس، لا فرق، (العبرة في الخاتمة) كما يقول شكسبير، وإن تنوعت الأساليبُ، وتعددت الطرقُ، وهو يستعيرُ من الأسى تاريخه، مملكة الموتى في الميثولوجيا القديمة، مفتتحاً عالمه القصصي بقولة كلكامش: (سأجلسُ وأبكي..)!!

في الإمتاع والمؤانسة لنعيم شريف المجالسةُ من نوعٍ آخر، لا تجدُ فيها فكاهةً فجّة، أو حكايةً فائضة المعنى، أو استطراداً تاريخيّاً مفارقاً لحظةَ الكتابةِ، ولا تجدُ، أيضاً، صوتَ جليسٍ يحرضه على القولِ، مثيل وزير أبي حيّان، وحيداً يجالسُ وعيه، وضميره الحيّ، يصغي إلى أنين الغيّابِ، وتأوّه الليالي وهي تنأى مثل قبرةٍ، دون أن يصغي إليه أحدٌ!!؟

((وكنتُ أسمعُ رجعَ صوتي يضربُ الجدران والأبوابَ المقفلة ويرتدّ إليّ واهناً ضعيفاً، وكأن لم يسمعني أحدٌ..))

ولد نعيم شريف في بابلَ، أرض الحكاياتِ، وعاشَ على مقربةٍ من مكائدِ الآلهة، أليس هو صاحب كتاب "كلاب الآلهة" ثم تنقّل، كأيّ غريبٍ في بلاده، بينَ مدنٍ أخرى، ثم لم تسع حلمه بلادُ الكوابيس، فغادرَ حاملاً حقائب الحنين والخيبة معاً، ليقيمَ في أقاصي المخيلة، متسائلاً مع نفسه بما قاله سعدي يوسف ذات هزيع: (أيكون أقصى الأرض لي سكناً)!!

رجعَ البلادَ، ودخلَ الآخرون الحفلة التنكرية، وهو على موقفه، لم يدعِ نضالاً كان أولى به، وإنما عادَ ليقايض (بالكلمة الرصاصة)، ويواصلَ الإمتاع والمؤانسة بمقالات تقعُ على المزيفين كوقع (الحسام المهند)، وفي عيون الأسوياء تبدو كوردةٍ في منازلِ الشوق!!

(والآنَ اسمحوا لي بالذهاب فقد انبلج الفجرُ وأدركنا الصباحُ وسعدون شرعَ يشخرُ على أريكةِ المقهى)
8EB0669B-37C7-444B-8ED3-0CCEFB98AE3E
أسامة غالي

كاتب عراقي ورئيس تحرير مجلة الثقافة العراقية، نشر مقالات عدة في صحف عراقية وعربية.