02 يونيو 2019
مي مظفّر... السعادةُ في أن تصغي!
حينَ يُذكر رافع الناصريّ تذكرُ مي مظفّر، والعكسُ تماماً، تلازما في الحضور، الإبداعيّ والإنسانيّ، الفنيّ والشعريّ، في الرؤيا والموقف..
تعرفتُ على الفنان رافع الناصريّ، أول ما تعرفت عليه، في أحاديث الدكتور عاصم فرمان، كان يحدثني عنه وعن اشتغالاته ببالغ الدهشة والمحبة، وعن درسه الأول في الحياةِ والفنِ في معهدِ الفنون الجميلة -بغداد-، ثم بدأتُ بمتابعة السيرة والمنجز، ما يكتبُ عنه، كانت أعماله في التخطيط تستدعي الانتباه، تلك التي تزدان بها الكتب بخاصة، مثالاً: تخطيط الجواهري في (بريد العودة) وأعمال أخرى..
وإلى جوار هذه المعرفة تعرفتُ على الشاعرةِ والمترجمةِ مي مظفّر، زوج الفنان، في كتاب الشعر والرسم، لفرانكلين وماري روجرز، وفي القصائدِ، ثم تواصلتُ معها بشكلٍ مباشرٍ، مثقفة أصيلة وإنسانة مثال، كنتُ بصدد إعداد ملفٍ عن الفنان رافع الناصريّ في مجلة الثقافة العراقيّة، كانت في غاية التعاون، وأعدّت الملفَ بكامله، مع ملحقاته الفنيّة، صور من الأرشيف، وما زالت تتابع عمل المجلة، وتشجع على استمرارها والتواصل معها في الأعداد الجديدة..
حدساً حسبتُ أنّها في بغدادَ، كتبتُ إليها متسائلاً، تفاجأت من مراسلتي، وأجابت بمحبتها المعهودة: أهذا فأل؟؟.. بعد أيام قليلة كتبت لي: إنّ حدسك كانَ في محله، واليوم وصلت بغداد.. نلتقي غداً..
اللقاءُ رفقة الأستاذ قحطان الملّاك، ذهبتُ على الموعدِ، كانَ اللقاءُ ضوءاً بعيد المدى، لقاءُ الذاكرةِ المتوهجة، استعادت لحظاتٍ هامة في السيرةِ والحياةِ والموقفِ، في علاقتها بالراحل الكبير رافع الناصري، في اهتماماتها الأولى، في الترجمةِ والشعرِ، في الوظيفةِ أيضاً، في علاقتها بالمترجم العراقيّ نجيب المانع والمترجم جبرا إبراهيم جبرا والشاعر العراقيّ شاذل طاقة وكتّاب ومبدعين آخرين، استمرَ اللقاءُ نهاراً لأكثر من ساعتين، ثم رافقتها إلى شارع الرشيد، ثم أبي نواس، حتى إقامتها ليلاً، كانَ لها في كلّ مكانٍ ذكرى، أصغي إليها بمحبةٍ وسعادةٍ خاصة، ذاكرةٌ متوهجة حقاً، تصفُ الأماكنَ بالحنينِ، وصفٌ أبلغ من قصيدةٍ، القاعات الفنيّة، دور السينما، المقاهي، ثم في أبي نواس تحدثت عن النهرِ الخالد (دجلة) وما يجاوره، عن الشجرِ والناسِ والحياةِ، حدثتني عن مدرستها الأولى (الراهبات) ونحن نمرُّ في جوارها، هذه المدرسة التي تعدُ من معالم بغدادَ الخالدة، وبين هذه الذكريات، نتحاورُ في تفاصيل ثقافيّة، تفاصيل دقيقة وحيوية في الثقافة العراقيّة، تفاصيل تتعلقُ -في كثير منها- بسيرة (النهر الأول) رافع الناصري، في روح أعماله التي خبرتها وعاشت معها، في تنوع اشتغالاته الفنيّة، وهي تكاشفُ المعنى الكامن في هذا العمل أو ذاك -سواء أكان تخطيطاً أم لوحةً أم تصميماً- مكاشفةً مدهشة وعميقة!!
تتحدثُ عن الفنانِ الراحلِ وكأنّه حاضر معها، يصغي إليها، تتماهى معه بشكلٍ لا يوصف، تماهياً روحياً هائلاً، يذكرني برؤيا الحلاج: نحن روحان حَللنا بدنا، فإذا أبصرتني أبصرته، وإذا أبصرتهُ أبصرتنا!!
بعد انتهاء اللقاءِ، وتوديعها الأكثر لطفاً، رجعتُ الطريق أفكرُ بهذا الشموخِ، شموخ الإنسان حينَ يسمو، كيفَ يضع العمرَ بينَ يدي من يُحب، من زمنٍ وهي منشغلة تماماً بتراثِ رافع الناصري، منشغلة بتقديمه للأجيال الجديدة عربياً وعالمياً، في الكتابةِ عنه، في تحريرِ وإعداد ما يكتب أيضاً، حتى في الشعرِ كانَ رافعُ الناصري حاضراً معها، في ديوانها (غِياب) تُصيّر الغياب حضوراً، حيثُ يبدو العنوانُ أعمق دلالةً من الغيابِ نفسه، تكتب في الإهداء:
إلى رافع الناصري: (الحبيب .. الصديق .. الزوج)
إذن، كيفَ يغيبُ من كانَ بثلاثة معانٍ، هو الحضور بكاملِ وهجه!!
وتقولُ في قصيدةٍ:
(يتسللُ من بين المدُنِ.. الطرُقاتِ
يطوفُ على قممِ الأشجارِ
يلامسُ أطرافَ الغيمِ.. اسمُكْ:
"راءٌ" تلثمُ زهراً أحمرْ
"ألفٌ" علقَت بمياهِ النهَرْ
"فاءٌ" فتحت بابَ الشرفهْ
"عينٌ" من قلبِ "اللوحةِ" من شقٍّ
تبصرْ
وتَحلُّ مساءً في كوكبْ)
هذا في الشعرِ، في الترجمة، أيضاً، تشتغلُ على إنجاز ما كانَ موضع اهتمام رافع الناصري، إكماله وفاءً وذكرى، كتابٌ تعملُ على ترجمته من زمنٍ، علّه ينجزُ قريباً ويُقرأ..
سلاماً على الحاضرين دوماً في أعالي الذاكرة
سلاماً سلاماً.. رافع الناصري الفنان الكبير، مي مظفّر أستاذتي الكبرى.