نحو مجتمع علمي وديمقراطي في السودان

13 اغسطس 2019
+ الخط -
حدّدت الثورة في السودان رؤاها وأهدافها، وأعملت قوى الحرية والتغيير جهدها لتحديد الإطار الذي يمكن أن يتم فيه التواصل، وعرَّفت الميثاق الذي يجب أن يحكم صيغ التعامل بين السلطات المختلفة، ويقنن طريقة تفاعلها في ما بينها. بقي علي رئيس الوزراء المرتقب أن يضع الخطة الاستراتيجية الوطنية، يرتب سلم الأولويات ويستحدث الآلية اللازمة والمناسبة للتنفيذ والمتابعة، لئلا تنحرف البرامج عن النتائج المحدّدة سلفاً نتيجة الضعف في التنسيق بين الهيئات أو الوزارات المختلفة، أو تنحرف النتائج عن النتائج الوسيطة، متأثرة بالشروخ في دائرة تصميم وتنفيذ السياسات التي تحدث نتيجة ضعف التفاعل/ التواصل بين الهيئات العلمية، المجتمعية والسياسية.
انتهى دور الناشطين، ووجب على المختصين، حتى إن لم يكونوا مخوّلين للنظر في الآتي: مراجعة الهيكل الإداري للدولة، والنظر في ما يمكن دمجه وما يلزم إلغاؤه حتى تكون هنالك حكومة رشيقة، الاستعانة بالمختصين السودانيين وغيرهم في كل المجالات لتقديم المعونة الفنية والمهنية اللازمة، تحويل السفارات لاستقبال المبادرات، عقد ورش لتمحيصها في البلد المعني، وفتح قنوات لإيصالها مباشرة لوزارة التخطيط المركزي، استقطاب أفضل 2% من العلماء المقيمين في السودان، والسعي عاجلاً لإعادة تأهيلهم نفسياً واجتماعياً وعلمياً، كي يتهيأوا 
للانخراط في العمل التخطيطي غير مستصبحين لآفات العمل في مناخ الإنقاذ الآسن والمتعفن، استحداث وزارة أو أمانة عامة للتخطيط التنموي والإحصاء.
يتطلب غرس ثقافة الحوكمة التواصل الدؤوب مع الجماهير عبر الإعلام، تفاعل التنفيذيين مع كل القطاعات، وتعريف الجمهور بالخطة وأهدافها، وكل مراحلها، من دون إغفال للتنويه بدور أصحاب المصلحة في إعانة الدولة على إعداد الخطة، تذليل الصعاب والتغلب على التحديات التي قد تعترض المسيرة. إن استقطاب أناس لوزارة التخطيط، لهم مقدرة على التحليل، النقد، الفلسفة والتنظير، أمر ضروري وحيوي، كي لا يستحيل التخطيط التنموي إلي إجراء روتيني، يفتقر إلى الحيوية العلمية، وتنعدم فيه الدينامية اللازمة لإعادة النظر في الأهداف والوسائل المناسبة لتحقيقها، لا بد من الاستعانة بالمؤسسات الإقليمية والدولية، بيد أننا يجب أن لا نركن لمنشوراتهم التي توثق للممارسات الفضلى ونتقبلها من دون تمحيص.
يتطلب تحقيق الأهداف العليا للثورة متمثلة في الحرية والسلام والعدالة وجود ديمقراطية اقتصادية، ضوابط إعلامية، وقدرة على تحييد دور السلاح، فاستحواذ رموز النظام السابق على مصادر المال وتوظيفهم إياه لشراء رموز إعلامية أو ترفيع أخرى وضيعة، والدفع بها لصالح الاستنصار بالقوات النظامية، حال حدوث خلاف سياسي قد وضع البلاد على شفا جرف هار وما زال. إذا أيقنا أن الثورة المضادة ما زالت تحتفظ بألويتها الاقتصادية، المالية والعسكرية، فإننا سنتخذ من الوسائل ما يُبطل مفعولها، بمعنى يقوّض قدرتها على بث السموم، يوظف إمكاناتها لصالح الثورة، ويعيد النظر في كيفية تمليك أسهمها للمواطنين، والعاملين خصوصا، من دون أن يقنن لاحتكارية بديلة.
وإذا كان الإعلام مهماً لأداء دور سياسي حرج في هذه المرحلة، فإن دوره في تنمية الذات الثقافية والاجتماعية أهم. يسانده في ذلك التعليم الذي يجب أن لا تقتصر أهدافه على ما هو 
مادي، بل أن يتعدّى ذلك لإثراء الشخصية المعنوية، وإعطائها فرصة التفاعل مع الآخر، وليس فقط مساكنته وجدانياً. لقد تشكل هذا الوجدان في مناخاتٍ أقل ما يقال عنها إنها غير معافاة وتبلورت هذه الشخصية في ظروف غير إنسانية، جعلتها ضحية أساطير وأكاذيب، كانت فيها الإحالة إلى القدر والاستسلام للرؤية الغيبية. لا عجب أنها عاشت قروناً في غربة عن ذاتها، وعن محيطها التاريخي والجغرافي.
يحكي الأديب عبدالله الطيب أنه اصطحب وفداً أجنبياً إلى البجراوية (شمالا)، فلم يستقرّوا حتى تطوع أحد الأعراب، وتحدث إليهم من فوق جمله، عارضاً خدماته للتعريف بالأهرامات في منطقة مروي. كانت البداية دالةً على عجز هذا الكائن عن التساكن مع تاريخه وأرضه، إذ قال لهم معرفاً: "دي قصور الكفرة، القصر الكبير دا قصر أبو جهل". نحن إذن نعيش في جغرافيا بذاكرة تاريخية، إذا جاز لي استخدام تعبير الصديق أمير صديق. ليس المشكل في اعتقادنا عن أنفسنا، وتوهمنا في ذاتنا، إنما في طريقة تفاعلنا مع واقعنا. إذ إن الغربة النفسية والشعورية تفقد الإنسان خاصية التوافق مع المكان، وتعدم فيه الرغبة لتطوير هذا المكان، والبحث عن سبل لتطويره وازدهاره.
لا يخفق النظام التربوي والتعليمي الحالي عن تأهيل الإنسان حضارياً، وتمليكه سبل الازدهار 
المادي فقط، إنما يتّخذ من ذهن الطالب مَكباً لنفايات فكرية، ومن وجدانه حيزاً لخرافاتٍ أدبية. لا بد من إعداد لجان متخصصة لمراجعة المناهج، والتركيز على الأطفال من سن الثالثة، كي ينشأوا وهم بُرآء من العقد النفسية والعلل الاجتماعية التي حالت دون تحقيق الحرية والسلام والعدالة. كما لا بد للتعليم أن يرتبط بحاجة البلاد الاقتصادية، فالرؤية الحالية لا تكفي، إنما لا بد من رؤية استشرافية، تنظر إلى أهمية إتقان مهارات تحتاجها السوق المحلي والعالمية.
ختاماً، التعويل في هذه السانحة على حصافة القارئ للتفريق بين رؤية كاتب هذه السطور للتنوير المعرفي، الحضاري والإنساني، ورؤية نظام الإنقاذ التي عمدت فيها إلى إعادة صياغة شخصية الإنسان السوداني: موقف الثوريين الحاليين ثقافي ثوري وموقف الإنقاذيين سياسي استلابي، وتآمري يريد، وبدوافع أيديولوجية، أن يلحق هذه الذات بذوات أخرى، تزيد من غربتها، فيما يسعى الثوريون إلى إكسابها مناعة ضد هذا النوع من الاستلاب، صيانتها من الضياع والتوظيف غير السوي. للقيادة دور في توطين السلوك الحضري، مأسسة القيم الديمقراطية، بعث الأمل في الأجيال، تحفيزها لتملك سبل الابتكار، وتعريفها بأدوات التواصل والتفاعل مع أفراد القرية الكوكبية.
D0318FA5-DB60-4F70-8829-AC21791078A5
D0318FA5-DB60-4F70-8829-AC21791078A5
الوليد آدم مادبو

كاتب سوداني، خبير التحديث والتطوير المؤسسي، ومستشار التنمية العالمية

الوليد آدم مادبو