نحو بناء سردية جديدة للثورات العربية (2-4)

11 فبراير 2015
إن زوال رأس النظام لا يعني انتفاء الدولة العميقة(Getty)
+ الخط -

ماذا لو تحدثنا عن دورة كاملة، أو موجة كاملة تتحرك من "الربيع الفائت" إلى "الربيع القادم"؟ ماذا لو افترضنا "الثورة" كيانا عضويا له حياة تنتقل من طورٍ إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة، مثلما تنتقل السنة الواحدة بفصولها الأربعة من فصلٍ إلى آخر، ومن موسم إلى آخر؟ ماذا لو كانت الثورة هذه لها حياتها في فصولها المتتابعة في حين أن قرينتها وغريمتها، التي نسميها الثورة المضادة أو الفعالية ضد الثورية وضد الديمقراطية، لها فصول حياتها الموازية لحياة تلك الأولى؟

وعند محاولة بناء مجاز تمثيلي يسرد تاريخ دورة كاملة، أو موجة كاملة ممتدة للربيع العربي، ينطلق من الربيع الفائت إلى الربيع القادم... ومن ربيع هذا العام مروراً بالصيف إلى الخريف إلى الشتاء ثم إلى ربيع جديد في العام التالي، يمكن للمرء أن يضع تصوراً أولياً حول مثل هذه السردية بالصورة التالية:

1) إن "الربيع العربي" في 2011 كان مجرد نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة أخرى. إنه نهاية الشتاء المفروض والتبريد والتجميد القسري ضد الحالة الفكرية السياسية والاجتماعية في العالم العربي باتجاه لحظة اكتمال الفعل الاحتجاجي المستمر منذ عقد من السنوات تقريباً، حيث كان عام 2008 عاماً مفصلياً فيه، لأنه العام الذي شهد احتجاجات "مدينة المحلة" في مصر في السادس من إبريل/نيسان 2008 وأيضاً احتجاجات "الحوض المنجمي" في تونس.. وبنفس المعيار كان الربيع العربي في 2011 محطة نهائية لتكتل تحركات نخبوية حاولت الامتداد والوصول إلى الشارع، مثل "كفاية" في مصر، وتجمّعات أخرى مماثلة ضد النظم السلطوية العربية سواء في تونس أو في سورية أو غيرهما.

2) لم يكن الربيع العربي 2011 يتحرك من فراغ، ولا في فراغ ولا إلى فراغ... كان الربيع العربي 2011 ينطلق من مظلومية مجتمعية شاملة تعايشها كل الشعوب العربية منذ تأسيس دولة ما بعد الاستقلال، سواء المظلومية السياسية بافتقاد الحريات والحقوق، أو المظلومية الاقتصادية بافتقاد العدالة الاجتماعية، وفوق هذا وذاك كان إهدار الكرامة الإنسانية هو فتيل اشتعال هذه الثورات (البوعزيزي في تونس، وخالد سعيد في مصر).

3) الانتقال من ربيع تكتمل فيه مراحل سابقة إلى ربيع آخر يفتح مراحل لاحقة لا بد له أن يمر، وهو الآن يمر بالفعل، بكافة الفصول والمواسم التي تفصل "الربيع الفائت" عن "الربيع التالي" له... أي أن الانتقال يكون:
من ربيع التحولات إلى صيف المواجهات، إلى خريف سقوط الأوراق (سقوط الأفكار والرؤى والتصورات والنمذجات والدوغماءات السابقة)، إلى شتاء الكمون والجمود، أو السكون الذي يسبق العاصفة.. عاصفة ربيع جديد.

ومن الضروري التوقف عند أن لحظة النشوة والإحساس بالفرحة بسبب سقوط النظم التسلطية قصيرة ومؤقتة... وملاحظة أنها امتدت فقط لأوقات قصيرة، عندما كان المحتجون والثوريون والمناضلون والسياسيون والحقوقيون وغيرهم من جموع الشعب لا يصدقون أن هذه النظم التسلطية قد تمت إزاحتها عن قمة السلطة. حدث هذا في كل من مصر وتونس بالأساس، لأنها البلدان التي شهدت رحيل رأس النظام في وقت قصير، وبدرجة أخرى تم إسقاط نظام القذافي خلال شهور، وتمت إزاحة على عبد الله صالح من السلطة بعد مقاومة عنيدة منه، حتى بعد أن تعرض لمحاولة اغتيال كادت بالفعل أن تودي بحياته. عندها سقطت (بل رحلت) أربعة وجوه تسلطية في تونس ومصر وليبيا واليمن، وبقيت عناصر النظام القديم كما هي في هذه البلاد، في حين كان الربيع العربي في سورية له قصص أخرى، وكذلك النصف ربيع الذي شهده المغرب، وانتفاضة الربيع المتأخرة والملتبسة في العراق، وربيع تم قمعه بكفاءة في موريتانيا.

أما الصيف العربي الذي أعقب لحظة الربيع البازغة، فقد بدأ بمجرد أن أدرك الجميع في المعارضة أن زوال رأس النظام هنا أو هناك لا يعني أن كل مؤسسات وهياكل وروابط وصلات وعلاقات الدولة العميقة والمجتمع الطفيلي الموالي لها والمتعايش بها ومعها قد انتهت. صيف الربيع العربي كان قائظاً وقاسياً ما بين ناشطيه وبعضهم بعضا، وأيضاً قائظاً وقاسياً على ناشطيه وضد ناشطيه، أكثر من قيظه وقسوته على خصمه في الدولة العميقة ومجتمعها الأوليغارشي الذي يساندها.

هذا الصيف العربي شهد المواجهات والصدامات، وشهد الاستقطاب والمشاحنات، وشهد تفكك عُرى اللُحمة الواحدة الثورية إلى كيانات وكتل متفرقة ومتعددة. صارت في تحولها هذا تماثل كتلة من الماء تحولت من حالتها الساكنة الباردة بجزئياتها المتراصة إلى جانب بعضها بعضا والمُكوِّنة لكيان موحّد له توتر سطحي يدل على تماسكه. تحولت بفعل الحرارة والغليان من حالتها الساكنة إلى حراك عنيف تتدافع كل الجزئيات فيما بينها وتضرب بعضها بعضا. حالة الصيف العربي تراوحت من الانقسام السياسي في مصر وتونس، إلى المواجهات المتوترة في اليمن، وإلى المواجهة المسلحة في سورية (بعد ربيع قصير كان شعاره: واحد.. واحد.. واحد.. الشعب السوري واحد) وكذلك المصادمات السياسية ثم العسكرية في ليبيا.

في مرحلة "الصيف العربي" فشلت الكتل المتراصة للثورة في الوصول إلى جبهة واحدة ووجهة واحدة وخطة واحدة تصل بها من "الثورة" إلى "الدولة". وبالتالي كان الانقسام والاستقطاب والمواجهات الأيديولوجية والسياسية، ثم الاتهامات والانتقادات هو الحافز لوثوب "الدولة العميقة" لتحتل محل الصدارة في توجيه المشهد، وظهور"الثورة المضادة" في أكثر من صورة وفي أكثر من مكان.. كان "صيف" الثورة الذي تعيشه هذه القوى الثورية هو نفسه "ربيع" الثورة المضادة (بعد شتاء فرضه الربيع العربي علي الدولة العميقة والثورة المضادة). ربيع الثورة المضادة الذي صنعته قوى الربيع العربي بانقسامها واستقطاباتها، كان له حتماً أن ينتهي إلى انتصار هذه "الثورة المضادة"، وتتويج ربيعها بالوصول إلى لحظته الثورية الضدية الكاملة... لحظة "الانقلاب" سواء الكامل في مصر، أو الجزئي في ليبيا، أو المؤجل في تونس، أو الناعم في المغرب، والخشن في اليمن، والمستمر والمستدام في العراق.



(مصر)

المساهمون