نبض بيروت ومعجزة مقاومة القبح

11 سبتمبر 2020

منظر جوي لمرفأ بيروت بعد الانفجار (21/8/2020/Getty)

+ الخط -

نحب أن نتمسك برومانسية صورة لبنان على الرغم من كل شيء. نبحث عن إشارات رومانسية للبلد الذي باتت يوميات سكانه أشبه بالجحيم، وحذّر مسؤول فرنسي رفيع المستوى من إمكان زواله. تأتي الإشارات من أي شيء، كبير أو صغير. زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون السيدة فيروز كانت إحدى محطات استعادة الرومانسية. شاهدنا صور فيروز التي قلما تخرج للإعلام، وهي التي حملت أغانيها بذور التغني بلبنان الحلم، ضيعة وادعة جميلة يختلف أهلها ثم يتفقون، وقصص حب وفراق ولقاء عجنت نظامنا العاطفي. بيت فيروز، كما قال تقرير لـ"بي بي سي" البريطانية، يشبه بيوت جدّاتنا، أي إنه بسيط فيه أغراض كثيرة مرتبة هنا وهناك، وأشياء أخرى معلقة على الجدران، أيقونات تبارى الخبراء في توصيفها وبورتريه لـ"الديفا"، بتنا نعرف أنه لرسامة لبنانية كرواتية. ماذا قالت فيروز لماكرون؟ ما تشعر به بعد الكارثة؟ هل أسرّت له بشيء ما قد يفرح القلوب المتعطّشة لإشارة من زمن مضى، تعتبر "الأيقونة" من أبرز معالمه؟ ضجّت مواقع التواصل بصور فيروز وأغانيها ومشاعر وذكريات من هنا وهناك. سُررنا لحظوة مشاهدة فيروز من داخل منزلها، في بساطته وبساطتها، فيما غضب بعضنا لصمتها، إذ كان يفترض، بحسبهم، أن توجّه إلى اللبنانيين رسالة ما في محنتهم الجديدة، وهي التي طبعت أغانيها سنوات الحرب الأهلية الطويلة، وساعدت في تحمّل وطأتها. من أين نأتي بالفرح والأمل، وكيف نخزّنه للأيام المقبلة في الدراما المتواصلة منذ الرابع من أغسطس/ آب بُعَيْد الساعة السادسة مساءً، عندما فتح فصل جديد من تاريخ المدينة والبلاد؟ 

بيروت القديمة التي نحب أن نستحضرها قد يكون من الصعب إعادة بعثها

بعد زيارة ماكرون بأيام، جاءت القصة الخرافية لنبضٍ يُقال إنه كان لا يزال حياً من تحت أنقاض مبنىً في محلة مار مخايل انهار في انفجار المرفأ قبل شهر. بريق أمل أنعش البحث مجدّداً عن إشارات النهوض من الرماد، كما يقال في بيروت المتجدّدة دوماً، جاءت مما اعتبر نَفًسا لا يزال صامداً تحت الركام في ما يشبه المعجزة. قالت الرواية إن النَّفَس قد يكون لطفل لا يزال يقاوم من أجل الحياة مدة شهر. على الرغم من غرابة الأمر، التقطه فريق إنقاذ تشيلي، يساهم في عمليات البحث عن ناجين محتملين في أنقاض بيوت مار مخايل المنهارة. هل من رمز أكثر رومانسية لمدينة صغيرة وضعيفة تقاوم الانهيار، في حين أن كل المؤشرات تقول إنها تسير لا محالة في هذا الاتجاه؟ رواية إخبارية من أكثر الروايات انسانيةً وحشداً للعواطف، تلقفها الباحثون عن أمل وفرصة ما للفرح، فبقيت الأنفاس مشدودةً إلى دقّة القلب، النبض ثم النفس، يأتي ويغيب، في حين أن الأنفاس تظل معلقةً بانتظار خبر سعيد يحمل رسالة أن المدينة المقهورة لا تزال قادرة على اجتراع المعجزات. هل لا يزال النّفس صامداً؟ هل لا يزال نبض بيروت صامداً، أم أنه انقطع، وبات علينا أن ننتظر العقد المقبل، لنتنفس مجدّداً، على قول زياد الرحباني؟ انتهى مسلسل البحث عن النبض الباقي من دون العثور على حياة أو علـى جثة في الموقع. لم تكن النتيجة لتغير الكثير في واقع مدينةٍ غارقةٍ في الحداد على الضحايا وقصصهم. من مات مات، ومن نجا يحمل آثاراً جسمانية أو صدمة الحدث الفاجعة. الكلبة "فلاش" التي استشعرت الحياة بين الركام باتت حبيبة الجماهير، حتى إن بعضهم قارن بين إخلاصها وإهمال المسؤولين اللبنانيين، وحظيت بمجسّم غرافيتي يصور قلبها في اتصال مباشر مع قلب الشخص المجهول الذي كنا نأمل العثور عليه. ليست نتيجة البحث مهمة بقدر أهمية عودة الحيوية والأمل إلى أهل البلد في حدادهم المتواصل. ثم ماذا بعد؟ أضواء قليلة عادت إلى شارع مار مخايل الذي كان يوماً يعجّ بالساهرين، وبعضهم عاد إلى المحالّ القليلة التي فتحت أبوابها. هل نرجع وترجع يوماً؟

حان وقت العمل، وقد تكون المعجزة إيجاد أدواته وترجمتها إلى واقع

لن ينتهي موسم البحث عن رومانسية في وقت قريب. نتمسّك بخيوط الأمل، ونبحث عن مناسباته على قلتها، ونتلقف لحظات الفرح على ندرتها، فيما نعرف أن بيروت القديمة التي نحب أن نستحضرها قد يكون من الصعب إعادة بعثها. عنونت صحيفة الغارديان البريطانية في تحقيق عن عمليات البحث في مبنى مار مخايل أن بيروت مدينة تبحث عن معجزة. ولعل المعجزة الكبرى هي في إمكان الانتقال من حيّز الحنين الذي جعل من المدينة رمزاً رومانسياً، على كثرة مشكلاتها، إلى مجال العمل لبناء شيء جديد، شيء مختلف. قباحة الواقع متواصلة: مقتل ناشط في الحراك الاجتماعي في ظروف غامضة، منع وسيلة إعلامية من تغطية نشاطات رئاسة الجمهورية انتقاماً لانتقاداتها، رئيس مجلس النواب يرفع دعوى قضائية على إعلامية وناشطين لانتقادات عبّروا عنها، حبس الضابط الذي نقل إلى المراجع الرسمية العليا وجود نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت من دون أن يتحرّكوا، اعتقال ناشطة شابة في ظل تكتم كامل عن أسباب توقيفها وحملات تشويه إعلامية معتمدة على "تسريبات" للتحقيق... قبح ما بعده قبح، ونحن ننتظر إشارات الأمل والفرح فرصة للتنفس بعيداً عن وطأة الحاضر. حان وقت العمل، وقد تكون المعجزة إيجاد أدواته وترجمتها إلى واقع يتحدّى القبح بما هو أكثر فاعلية من التأرجح بين اليأس والغضب وحبال الأمل.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.