مَن أشعل العنف؟

11 يونيو 2015
من أشعل العنف؟ (Getty)
+ الخط -
منذ أن قررت دولة يوليو الاتجاه بمصر نحو هاوية العنف، وأبانتْ عن نيتها بعدة مجازر، أبشعها ما تم في فض اعتصامي رابعة والنهضة، من دون استثناء الحاصل بسيناء، استجاب الواقع عليهم الضغط بالقتل والتنكيل لإرادة عصبة الحكم، فجاوبوا الدم بالدم بمحدودية أولاً، ثم بالاتساع الحاصل الآن.

بدأ النظام الجديد تعامله بمجزرة هي أكبر ما وقع بعد الثورة، فقتل قرابة الخمسة والثمانين فيما سمي بمجزرة الحرس، وأدخل حينها الجيش كطرف مباشر يفقده ما اكتسب من شعبية عقب يناير/ كانون الثاني وتسليم السلطة في يونيو/ حزيران، ثم توالت الجرائم بعد ذلك، وفي كل مرة يخرج صوت، لماذا ندعهم يقتلوننا ولا نرد؟

أراد النظام أن يبرر انحطاطه وجرمه بالحديث عن العنف غير الموجود للأطراف المقابلة، فطلب وزير الدفاع عندها، والذي كان مرؤوساً لدى مرسي، تفويضاً له، لا للدولة، لمواجهة ما سماه الإرهاب "المحتمل"، ولا ندري متى حدثت في التاريخ مواجهة لشيء غير موجود، سوى لمن اتسع خياله فصار يواجه خيالاته.


المحصلة أن لفظة الإرهاب تكررت من دون داع، ففي الوقت الذي امتلأت فيه الشوارع بالمتظاهرين، وبعضها شهد أياماً كجمعة الغضب، كانت السلمية هي الحاكمة للمشهد والعنف لا يكاد يرى، والفعاليات التي كانت تمر بالمؤسسات العسكرية والشرطية وحتى الكنسية، كانت تحيط بها مجموعة من المتظاهرين لحمايتها، وأقصى العدائيات الكتابة عليها والهتاف ضدها، في ظل تلك السلمية الحقيقية، استمر النظام الأهوج بالحديث عن إرهاب المتظاهرين، حتى طرحوا السؤال الثاني: رغم سلميتنا وصبرنا على قتلهم لنا يصفوننا بالإرهاب، فلماذا لا نريهم الإرهاب فعلاً؟

عصبة الحكم عندما اختلفت وأرادت تغيير المسار بالجبْر، لم تكتفِ بإزاحة الرئيس المنتخب بشكل يضمن الحفاظ على الديمقراطية ومؤسسات الدولة المهترئة أصلاً، بل تعاملت برغبة في التشفي والانتقام، من حكام لم يمسوا لهم طرفاً، بل سايروهم لأقصى درجة، والأزمة كانت في الانتقام لا الإزاحة الجبرية، فهم لم يتورعوا عن قطع الأرزاق وتجفيف منابع المال "للأفراد"، وهو من الأمور الكافية لإخراج الحليم عن طبعه، حتى قيل: "عجبت لمن لا يملك قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"، وكذلك تدمير البيوت وقصفها كما بسيناء، أو تدمير محتوياتها، والقتل الهمجي في الشوارع والبيوت وأمام الأهل، والتعذيب الوحشي، بل وتجاوز العصبة الخطوط الحمراء لسلفها "مبارك" باعتقال البنات أصلاً، فضلاً عن الحكم عليهن وفضلاً عن تعذيبهن، والأخطر من كل ذلك الاغتصاب.

صاحب العنف بصوره، تضييق في وسائل التعبير كذلك، فما عاد مسموحاً بالتظاهر كما كان في الأشهر الأولى بعد الانقلاب، والتضييق في وسائل الإعلام بشتى أشكالها، بل وامتلاؤها بالأكاذيب التي تثير صدر المظلوم، وكأنهم يجمعون على مظلمته ادعاء ظلمه هو، فلم يبق أي مجال أو متنفس للتعبير عن الغضب سوى بالسلاح أو دعمه.

تلك العوامل رسخت في روعِ الأفراد رغبة كذلك في الثأر، ومفهوم جداً أن يسعى أي فرد في دائرة المقتول أو المغتصبة للثأر، ومن هنا انطلقت شرارة العنف التي، هي في ظني، تخضع له قبل كونها خاضعة للقصاص والاعتبار الديني، وهذا أيضاً طبيعي ومفهوم، لكن تقبّل التلبيس الشرعي في الطبيعي غير وارد، والممارسة المصاحبة للحوادث من قتل واسع تشير بجلاء إلى غياب الانضباط الذي لا ينفك عن الأحكام الشرعية، فيهوي صاحبها من خيال القصاص لإثم الانتقام.

من المهم التفرقة بين ما يحدث بسيناء خصوصاً وما يجري بغيرها بشكل عام، ومن في سيناء مختلفون عن الذين يتحركون بالسلاح في غيرها، حتى لو خرج بعضهم من شبه الجزيرة، وكذلك من المهم التفرقة بين عنف الأفراد في صراعات تماثل التي عندنا، وبين عنف الجماعات والتنظيمات، فالأول، بغض النظر عن قبوله، قد يكون طبيعياً ومفهوماً في ظل ما يتعرض له الفرد ويقابل ذلك غياب لمنظومة العدالة ولو في أدنى صورها، بل ما يجده المظلوم أن ظالمه ترقّى ليُمنح صلاحيات بطش أوسع، فتعظم لديه إرادة الثأر، أما الثاني فهو عنف ممجوج وغير مقبول، يحيل كل شيء يقترب منه إلى فساد، فتفسد التنظيمات ويفسد الأفراد ويزداد العنف من الطرف الأقوى والأكثر إجراماً فيفسد الوطن على فساده، لذا صار نبذ تلك الصورة واجباً على كل مهتم بالحراك وبالثورة وبالوطن.

مفهوم جداً ممن ابتلي بالاقتراب من مجرمي القوة والسلطة، أنه غير مكترث وعابئ بالوطن، فالوطن بقدر ما يحمل لأفراده يحملون له، ومساحة الظلم بقدر ما هي محتملة يبقى الوطن في عين المظلوم مكاناً تتعلق القلوب به على أمل التخلص من الظلم، والقضاء على ذلك الأمل يفضي بالضرورة في الوطن ويحيل ساكنيه لمسوخ كما نرى الآن، والرجاء أن نحافظ على المساحة الفاصلة بين فعل الحاكم وإرادة الخير للوطن المقهور رغم سوءاته.

(مصر)