ميونخ كما تنقلها الشاشات

01 اغسطس 2016

زهور وشموع تكريما لأرواح ضحايا الاعتداء في ميونيخ(29 يوليو/2016/Getty)

+ الخط -
يتكرّر المشهد في ميونيخ: صبي في عمر الثامنة عشرة عاماً، ولد وترعرع في ألمانيا (من أصل إيراني)، يشهر سلاحه صارخاً بأعلى صوته: "أنا ألماني"، متذمّراً من التنمّر الذي عانى منه على أيدي مواطنيه الألمان، وملقياً عبارات الذم يميناً وشمالاً بحق "الأتراك" و"الأجانب"، لينتهي بقتل عشرة أشخاص، كان هو آخرهم.
مشهد ليس جديداً فيما يبدو، ليس على الشاشتين، الكبيرة والصغيرة فحسب، بل أيضاً على الأرض في سياق مجتمعاتٍ بدأت تعتاد، كرهاً، هذه الحوادث بين فينةٍ وأخرى. وجدت السلطات الرسمية التي تابعت القضية بشكل باهر الوضوح هوساً مفرطاً لدى الجاني بحوادث القتل الجماعي، وإطلاق النار العلني المفتوح. كانت غرفته مليئةً بمئات الوثائق والمقالات والتحقيقات عن مختلف حوادث إطلاق النار العلنية في المدارس، بالإضافة إلى ما يربطه بشدة مع القاتل النرويجي، أندرز بيرينغ بريفيتش، الذي قتل 77 شخصاً في يوليو/ تموز من العام 2011، تعبيراً عن تعصبه لتفوّق الرجل الأبيض، ورداً على "التعدّد العرقي" في مجتمعه.
إلى هنا، يبدو المشهد ليس إلا تكراراً للجنون عينه، حيث يلعب مزيجٌ من العصاب والذهان دوره لدى شخصيةٍ هنا أو هناك. إذن، من المتوقع أن يبدأ التحليل ولا ينتهي عن انتشار العنف، ودور المجتمع، وجدلية الطبيعة في مقابل التنشئة.. يعقده عشرات من المحللين النفسيين والخبراء الاجتماعيين والمعلقين التلفزيونيين... إلخ.
لكن ما يخيّب الأمل فعلاً أن يصبح مربط الفرس في الإعلام الأميركي اليوم هو (الأصل الإيراني) للجاني. ومن هنا، تنطلق الدعوات السفيهة مجدّداً إلى إلحاق المسلمين والإسلام بالشاب وفعلته، وانتظار الردود والاعتذارات بالجملة والتفصيل، بعد الإلقاء بهم في موقع دفاعٍ لا علاقة لهم به.
في هذا الزمن المجنون، بدلاً من أن تفتح حادثة مكرورة كهذه باب النقاشات الجديّة حول العنف في الغرب، وثقافة السلاح المتفشية كالطاعون في بلاد "الحريات وتعدّد الثقافات"، وحول الاعتداء الذي لا يتوقف بحق الأطفال المهاجرين تحديداً، وعن وصول أيدي الأطفال والرضع إلى الأسلحة في أي مكان وزمان... يصبح الحديث الوحيد المهم والضروري هو الحديث (كما في كل مرة) عن الإسلام!
لو كان هذا الزمن مرتبطاً بالأسئلة المحقّة، لكان من الممكن التساؤل: لماذا توّجب على ذاك الشاب الألماني أن يشعر بالاضطهاد والاستهداف، إلى درجةٍ اعتقد معها بحاجته إلى استرداد "ألمانيته" بقتل الآخرين؟ ما الذي يدفع ضحايا التهميش إلى الانخراط في أفعال العنف المرعبة هذه؟ ما هو الأثر الذي يُحدثه هذا المناخ الأسود من الاستهداف العرقي والقومي، مع استمرار ارتفاع أسهم حركات اليمين المتطرّف في أوروبا والولايات المتحدة؟ وما هو المصير الذي يلقاه وسيلقاه أبناء الجيل الثاني من المهاجرين إلى الغرب؟ لماذا لم تؤد هذه الحادثة، أو عشرات غيرها، في بقع مختلفة من أوروبا والولايات المتحدة، إلى الانتقاد (مجرد الانتقاد) لسياسات انتشار السلاح العشوائية شرعياً ودستورياً في أيدي أيّ طفل يبلغ الثامنة عشرة ويوماً واحداً، ناهيكم عمن تؤول إلى أيديهم تلك الأسلحة بعد شرائها من أطفال؟
بدلاً من تلك الأسئلة، تتحوّل القضية إلى مجرد تسليةٍ إعلامية بنكهة "التوك شو"، ويصبح السؤال الوحيد محط الأولوية عن وجود صلة للجاني بتنظيم داعش أو عدم وجودها؟
كم يبدو سهلاً على الغرب إلقاء اللوم على سورية والعراق، وتسيير حملات الكره الانتخابية التي لا تحصد الأصوات وحسب، بل تساهم، بكل اطمئنانٍ، في تغطية ثقوب السياسات المهترئة التي تخدم أصحابها. ما من أدنى اهتمام في البحث والتنقيب عن أسباب هذه الحوادث، أو العمل على عدم تكرارها مجدداً، بل من المحبّب والمفضّل والمأمول أن تتكرّر، عاجلاً لا آجلاً. ثمّة شبكات تلفزيونية ومصوّرون محترفون ومراسلون بهلوانيون على أهبة الاستعداد دوماً لتغطية وضع الإسلام والشرق الأوسط من قلب بلادهم، فيما تذرف الدماء السخية لبث المزيد من الرعب وفوبيا التنوع والاختلاف.
B41766CD-B583-4134-BA8B-428994189FC2
B41766CD-B583-4134-BA8B-428994189FC2
نائل حريري

طبيب وكاتب ومترجم سوري، يكتب في عدد من الصحف العربية، وعمل بالترجمة مع عدد من دور النشر العربية

نائل حريري