16 فبراير 2020
ميركل "منحبك"
لم يبق للسوريين الذين تقطعت بهم السبل في المنافي والمهاجر، بعد أن أوصدت دول الجوار، والدول العربية والإسلامية، حدودها، وشددت من إجراءاتها الأمنية لوقف تدفق اللاجئين، وارتفعت في دول اللجوء الرئيسية (لبنان، الأردن، تركيا) حدة العنصرية تجاه السوري، إنساناً وقضية، إلا البحر ليركبوه، بحثا عن أمان واستقرار في دول أوروبا الغنية اقتصاديا. وأمام تدفق غير مسبوق للمهاجرين السوريين إلى دول الاتحاد الأوروبي، اتخذت الحكومة الألمانية قراراً، يعد "تاريخيا"، بمقاييس الأنظمة العربية الفريدة في التاريخ، لناحية شكلها ونظرتها لمواطنيها، نص على إلغاء "بصمة دبلن" للسوريين فقط. ما يعني استعداد ألمانيا لاستقبال جميع اللاجئين السوريين، بمن فيهم من أجبر، بحكم القانون الأوروبي، على إجراء البصمة في بعض الدول الأوروبية الفقيرة، مثل هنغاريا، ومقدونيا، ورومانيا، واليونان. ولم تمض ساعات على انتشار الخبر حتى ضجت به وسائل التواصل الاجتماعي وتبادله آلاف الراغبين والمتحمسين، وانتشرت كذلك إعلانات مأجورة لمهربين ثقاة، توضح مواصفات الرحلة ومسارها، وأجورها بحسب الدرجات (business، economy) أسوة برحلات الطيران المدني، والقطارات السريعة. ولم تخل تعليقات السوريين على القرار الألماني من نكت تراجيدية، اشتهروا بها، تعكس مأساتهم والتيه المعاش، وتجسد معايير جديدة لمفهوم الانتماء. كما استحضر السوريون شعار "منحبك" الذي يتغنى به مؤيدو النظام، ويرسمونه تحت صورة لبشار الأسد تتوسط علم سورية، ونسخوه على علم ألمانيا تحت صورة مستشارتها الشقراء، أنجيلا ميركل.
تعبّر الخطوة الألمانية هذه عن موقف "أخلاقي" متقدم على دول أوروبية غنية، مثل فرنسا وبريطانيا، فضلت دفن رأسها في الرمال، وأصرت، وما تزال، على حل هذه الأزمة من منظور أمني بحت، داخل أوروبا وخارجها، وكذلك على دول أوروبية أخرى، اختارت استقبال اللاجئين على أساس دينهم، أو طائفتهم أو إثنيتهم، فاستثنت السوريين العرب المسلمين، بتبريرات واهية، كالمخاوف من الإرهاب أو صعوبة الاندماج... إلخ. لكن، وكون النقاش حول قضية اللجوء يركز حاليًا على البعد الأخلاقي، فما يعد أخلاقيا الآن هو بالأصل نتيجة لسياسات غير أخلاقية في الماضي. خذ، مثلاً، سياسة ألمانيا تجاه الأزمة السورية ككل. فبخلاف دول أوروبية مؤثرة، تجنبت الحكومة الألمانية تصعيد موقفها تجاه نظام الأسد. لكن، من دون أن تخرج عن الإجماع الأوروبي فيما يتعلق بخطوات عقابية ضد مسؤولين سوريين انخرطوا في العنف، وإجراءات العزل الدبلوماسي، مثل سحب السفراء وتخفيض مستوى التمثيل. وحافظت ألمانيا، بحسب تقارير وتسريبات لصحف ألمانية شهيرة، على تعاونها الاستخباراتي والأمني مع النظام السوري، وتبنت مقاربة سياسية تجاه الأزمة، ركّزت فيها على مخاطر الإرهاب والتطرف، قبل أن يصعد نجمه، ومن دون النظر إلى الأسباب الحقيقة التي، غالباً، ما تؤدي إلى تغلغل الحركات الجهادية وانتشار أفكارها.
من جهة أخرى، ينسب الاتفاق الأميركي-الروسي بشأن السلاح الكيماوي للدبلوماسية الألمانية التي نشطت آنذاك على خط (بغداد، طهران، دمشق) لإنضاج مبادرةٍ ترعاها روسيا، تجنب النظام السوري ضربة عسكرية مرجحة. ونجحت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في عقد اجتماع ثنائي استثنائي جمع الرئيسين، الأميركي بارك أوباما والروسي فلاديمير بوتين، في أثناء قمة العشرين في سان بطرسبرغ في 5 سبتمبر/أيلول 2103، تمخضت عنه صفقة دولية تضمنت سحب أداة الجريمة "السلاح الكيماوي"، وإطلاق يد المجرم، ليكمل وحلفاءه (إيران وحزب الله) حرب الإبادة والتهجير. وما ينطبق على ألمانيا ينطبق على جيرانها، إذ يستفيض المسؤولون الغربيون، في أثناء المؤتمرات الصحفية، في الحديث عما قدموه من مبالغ وإعانات نقدية وعينية للشعب السوري، ليتجاوز محنته. لكن المتمعن في تفاصيل هذه المساعدات ووجهاتها، يلاحظ كيف تُدَور هذه الهبات لتعود إلى خزائن الدول المتبرعة بشكل غير مباشر عبر رواتب الموظفين العالية، واللقاءات، والاجتماعات، ومنظمات المجتمع المدني التي عادة ما تركز على قضايا لا تمس حياة السوري اليومية، ولعل أغربها ما ظهر من حراك لإنقاذ طائر أبو منجل المهدد بالانقراض، وجمع شهادات عن معاناة المثليين السوريين في مناطق داعش، كما جرى في مجلس الأمن أخيراً.
يواجه الشعب السوريّ خطر الانقراض بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فإيران لم تعد تخفي رغبتها في إحداث تغيير ديموغرافي شامل لسورية. لذلك، كان ترحيل أهالي الزبداني ومضايا وبقين إلى الشمال مطلبها الرئيس في مفاوضاتها مع "أحرار الشام"، كما أوعزت للنظام المستسلم لإرادتها في سبيل البقاء بتجريف ومسح مناطق واسعة في دمشق (المزة بساتين، كفرسوسة)، وحمص (إحراق السجلات المدنية والعقارية) أخليت من سكانها ليتملكها مستثمرون إيرانيون، ويسكنها مقاتلون أفغان وعراقيون ولبنانيون، قدموا من خارج الحدود، للقتال إلى جانب نظام لا تجمعهم به أي مشتركات. والفاجعة الكبرى أن ردة الفعل العربية والدولية لا تخرج عن سياق الإدانات اللفظية والبيانات المنمقة، وكأنه قبول ضمني أو مباركة لما يحصل. وتدريجياً، تختصر الأزمة السورية ببعض جوانبها، كما يجري حاليًا مع اللاجئين، لتتلاشى الأسئلة الأخلاقية الكبرى، وتستبدل بأسئلة آنية وفرعيه عن من يستقبل اللاجئين؟ وما العدد المسموح؟ ولماذا تفتح أوروبا حدودها وتغلق الأبواب العربية أمام السوريين؟
تعبّر الخطوة الألمانية هذه عن موقف "أخلاقي" متقدم على دول أوروبية غنية، مثل فرنسا وبريطانيا، فضلت دفن رأسها في الرمال، وأصرت، وما تزال، على حل هذه الأزمة من منظور أمني بحت، داخل أوروبا وخارجها، وكذلك على دول أوروبية أخرى، اختارت استقبال اللاجئين على أساس دينهم، أو طائفتهم أو إثنيتهم، فاستثنت السوريين العرب المسلمين، بتبريرات واهية، كالمخاوف من الإرهاب أو صعوبة الاندماج... إلخ. لكن، وكون النقاش حول قضية اللجوء يركز حاليًا على البعد الأخلاقي، فما يعد أخلاقيا الآن هو بالأصل نتيجة لسياسات غير أخلاقية في الماضي. خذ، مثلاً، سياسة ألمانيا تجاه الأزمة السورية ككل. فبخلاف دول أوروبية مؤثرة، تجنبت الحكومة الألمانية تصعيد موقفها تجاه نظام الأسد. لكن، من دون أن تخرج عن الإجماع الأوروبي فيما يتعلق بخطوات عقابية ضد مسؤولين سوريين انخرطوا في العنف، وإجراءات العزل الدبلوماسي، مثل سحب السفراء وتخفيض مستوى التمثيل. وحافظت ألمانيا، بحسب تقارير وتسريبات لصحف ألمانية شهيرة، على تعاونها الاستخباراتي والأمني مع النظام السوري، وتبنت مقاربة سياسية تجاه الأزمة، ركّزت فيها على مخاطر الإرهاب والتطرف، قبل أن يصعد نجمه، ومن دون النظر إلى الأسباب الحقيقة التي، غالباً، ما تؤدي إلى تغلغل الحركات الجهادية وانتشار أفكارها.
من جهة أخرى، ينسب الاتفاق الأميركي-الروسي بشأن السلاح الكيماوي للدبلوماسية الألمانية التي نشطت آنذاك على خط (بغداد، طهران، دمشق) لإنضاج مبادرةٍ ترعاها روسيا، تجنب النظام السوري ضربة عسكرية مرجحة. ونجحت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في عقد اجتماع ثنائي استثنائي جمع الرئيسين، الأميركي بارك أوباما والروسي فلاديمير بوتين، في أثناء قمة العشرين في سان بطرسبرغ في 5 سبتمبر/أيلول 2103، تمخضت عنه صفقة دولية تضمنت سحب أداة الجريمة "السلاح الكيماوي"، وإطلاق يد المجرم، ليكمل وحلفاءه (إيران وحزب الله) حرب الإبادة والتهجير. وما ينطبق على ألمانيا ينطبق على جيرانها، إذ يستفيض المسؤولون الغربيون، في أثناء المؤتمرات الصحفية، في الحديث عما قدموه من مبالغ وإعانات نقدية وعينية للشعب السوري، ليتجاوز محنته. لكن المتمعن في تفاصيل هذه المساعدات ووجهاتها، يلاحظ كيف تُدَور هذه الهبات لتعود إلى خزائن الدول المتبرعة بشكل غير مباشر عبر رواتب الموظفين العالية، واللقاءات، والاجتماعات، ومنظمات المجتمع المدني التي عادة ما تركز على قضايا لا تمس حياة السوري اليومية، ولعل أغربها ما ظهر من حراك لإنقاذ طائر أبو منجل المهدد بالانقراض، وجمع شهادات عن معاناة المثليين السوريين في مناطق داعش، كما جرى في مجلس الأمن أخيراً.
يواجه الشعب السوريّ خطر الانقراض بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فإيران لم تعد تخفي رغبتها في إحداث تغيير ديموغرافي شامل لسورية. لذلك، كان ترحيل أهالي الزبداني ومضايا وبقين إلى الشمال مطلبها الرئيس في مفاوضاتها مع "أحرار الشام"، كما أوعزت للنظام المستسلم لإرادتها في سبيل البقاء بتجريف ومسح مناطق واسعة في دمشق (المزة بساتين، كفرسوسة)، وحمص (إحراق السجلات المدنية والعقارية) أخليت من سكانها ليتملكها مستثمرون إيرانيون، ويسكنها مقاتلون أفغان وعراقيون ولبنانيون، قدموا من خارج الحدود، للقتال إلى جانب نظام لا تجمعهم به أي مشتركات. والفاجعة الكبرى أن ردة الفعل العربية والدولية لا تخرج عن سياق الإدانات اللفظية والبيانات المنمقة، وكأنه قبول ضمني أو مباركة لما يحصل. وتدريجياً، تختصر الأزمة السورية ببعض جوانبها، كما يجري حاليًا مع اللاجئين، لتتلاشى الأسئلة الأخلاقية الكبرى، وتستبدل بأسئلة آنية وفرعيه عن من يستقبل اللاجئين؟ وما العدد المسموح؟ ولماذا تفتح أوروبا حدودها وتغلق الأبواب العربية أمام السوريين؟