أبناء الأرض هم الذين دافعوا عنها في محنتها وحملوا أرواحهم على أكفهم يوم خذلها الجموع فامتزج ترابها بدمائهم لتعلن حالة من العشق السرمدي الممتد إلى الأبد ما بقيت الأرض والروح.
في ميدان التحرير مهد الثورة ومبتدؤها ومنتهاها نسجت قصص من التاريخ لا تنساها الأجيال وتبحث دائماً في تفاصيلها المعقدة، ولموقعة الجمل منها أصعب وأجمل الحكايات المروية، إذ هبت رياح الغضب محملة بثلاثين سنة من حنق نظام مبارك تجمعت في لحظة واحدة لتجتث الجموع الثائرة في التحرير.
فكان الثاني من فبراير/ شباط 2011 تاسع أيام الثورة المصرية، هو اليوم الذي عبرت فيه الخيل والبغال والحمير حواجز العسكر الثقيلة على مرأى ومسمع من أصحاب الزي المموه لتنقض على الثوار في ميدانهم لإنهاء الثورة إلى الأبد، فكانت المعركة الحاسمة التي غيرت معالم مصر، وأعلنت أن ثورتها ماضية إلى هدفها الأكبر وهو إسقاط النظام.
خنوع الديكتاتور
مبارك الرجل العسكري العنيد، الذي بقي ثلاثين سنة على رأس النظام، وقد حرص خلال أعوام حكمه الطويلة أن يرسم نفسه بطلاً لحرب السادس من أكتوبر 1973 ومنفذاً للضربة الجوية الأولى التي حملت سر الانتصار العظيم، والذي يملك كل الأجهزة الأمنية الشرسة للدولة المصرية، تزلزل الثورة أركان حكمه أخيراً، الشباب الذين تحدوا جبروت النظام وأحرجوه، خلال أسبوع ثقيل من الموجات المتسارعة للثورة، لم يستجيبوا لكل النداءات التي أطلقت لعودتهم وتراجعهم من الميدان بما فيها نداء مبارك نفسه، ليلة جمعة الغضب في الـ28 من يناير/ كانون الثاني 2011 وقد حقق شيئاً من المطالب بإقالة الحكومة وتعيين نائب له.
إلا أن السيف قد سبق العذل واستمرت الجموع في زحفها نحو الميادين، وهنا قرر مبارك أن يكسر صنمه الطاغية، وأن يتخلى عن عناده ووجهه العسكري الصارم، فخرج بأخطر خطاباته وقد لعب على وتر العاطفة لدى المصريين يستعطفهم وما أدراك ما وتيرة العاطفة والاسترحام لدى الشعب المصري، الذي قد يغفر كل ما حاق به لسنوات مقابل لحظات استعطاف مسروقة من أعوام العذاب.
وعلى ذاكرة السمك عند الجماهير، لعب مبارك في خطاب ليلة الثلاثاء الأول من فبراير/ شباط 2011، وصدق جزء من حديثه، وبدأت عوامل الانقسام تسري في عروق الشعب، حتى وصلت إلى داخل الميدان نفسه وبين جموع المعتصمين.
الموت لصناع أنصاف الثورات
لم تؤثر تلك الكلمات كثيراً في من شهدوا قسوة عساكر مبارك في جمعة الغضب، وكانت دماء شهداء يناير لم تجف بعد، وقرروا التترس بالميدان حتى يسقطوا النظام، ولا سبيل للعودة في عقيدتهم الثورية، إذ علموا أن الرجوع معناه الموت المحقق.
فبقي قطاع عريض من الثوار في الميدان، ولكن على الجانب الآخر كان النظام يحشد حشوده، ويستخدم قوته الناعمة من الفنانين والرياضيين وسائر سدنة الدولة الذين اعتمد عليهم كثيراً في التسويق لنفسه وللحزب الوطني الحاكم، نزلت تلك القوة الناعمة إلى الشارع وعلى بضع خطوات من ميدان التحرير في ميدان مصطفى محمود احتشدوا ومعهم المتعاطفون مع مبارك، وكان المشهد مخيفاً، إذ بدى أنه اصطفاف مضاد وانقسام واقع، وأن شبح الحرب الأهلية يلوح في الأفق بين أبناء الشعب الواحد.
وفي سراديب الشيطان كانت الدولة العميقة تعمل في تجهيز الجيش الذي سيطرد الثوار من ميدان التحرير، إنه جيش البلطجية الكامن الذي طالما كان يظهر في المظاهرات والوقفات الاحتجاجية من آن لآخر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، رجال الحزب الوطني الأقحاح كـصفوت الشريف وإبراهيم كامل وحسين مجاور، وعدد من رجال مجلسي الشعب والشورى ومعهم صفوف من المقربين من دوائر السلطة جهزوا الجيش وأمدوه بكل الأدوات والأموال اللازمة لإتمام المهمة التي توقعوا سهولتها وسرعتها في حسم الموقف.
الخيل والجمال تخترق حواجز القاهرة الكثيفة
هُزمت الشرطة، يوم جمعة الغضب، هزيمة منكرة، وانسحبت من شوارع العاصمة غير مأسوف عليها، وقد اندلعت الثورة في الأساس احتجاجاً على ممارستها، وحلت اللجان الشعبية العظيمة التي كونها المواطنون محل الشرطة في كل ركن من أركان المدن والمحافظات لا سيما القاهرة الكبرى، ثم انتشرت مدرعات الجيش وأقامت الحواجز العسكرية وقامت بتأمين المنشآت الحيوية، كان مشهد نزول الجيش فريداً من نوعه لم تشهده القاهرة، منذ أواخر ثمانينات القرن المنصرم، عندما نزل الجيش لقمع انتفاضة الأمن المركزي.
وفي يوم الأربعاء الثاني من فبراير/شباط 2011 تحركت فيالق الخيالة والجمال يرافقهم عدد من البلطجية المدججين بالسلاح من مناطق ( نزلة السمان - المنصورية - منشأة البكاري) وكلها من الأحياء المحيطة بمنطقة الأهرامات السياحية والتي يعمل كثير من أهلها في السياحة.
المسافة من منطقة الأهرامات إلى ميدان التحرير تقدر بـ 18 كم، تقطع زمنياً سيراً على الأقدام في حوالى 3 ساعات، وتمثلت خارطة تحرك ركب البلطجية والجمال في عبور شارع الهرم بأكمله بحواجزه العسكرية وصولاً إلى شارع مصر والسودان المشهور في محافظة الجيزة القريب من جامعة القاهرة حتى اقتربوا من ميدان مصطفى محمود الكائن بشارع جامعة الدول العربية على مسافة دقائق من ميدان التحرير.
احتاجت تلك الجموع بجمالها وخيلها وأسلحتها أن يصعدوا كوبري السادس من أكتوبر ليهبطوا من اتجاه ميدان عبدالمنعم رياض بجوار المتحف المصري ليقتحموا الميدان من هناك.
أين الجيش؟
كانت تلك المسيرة العجيبة التي لم تشهدها القاهرة من قبل تتقدم بسهولة وتعبر حواجز وأكمنة القوات المسلحة، التي لم تحرك ساكناً ولم تبد أي اعتراض لوقف هؤلاء المهاويس المأجورين، كان الأمر أشبه بحملة الغوغاء لقائدها بطرس الناسك في بداية الحروب الصليبية، عندما قطعت شوطاً ضخماً من الأراضي والدول دون اعتراض حتى اصطدمت بالجيش السلجوقي في نهاية المطاف.
وكتب العديد من مؤرخي الثورة، أن تلك فعلياً كانت بداية "الخيانة" من الجيش، وأن عبور جحافل البلطجية بهذا الشكل وسط العاصمة هو مشهد سيتوقف التاريخ عنده طويلاً، فضلاً عن أنه أحد أهم النقاط المحورية في ثورة الخامس والعشرين من يناير.
الميدان يشتعل
كان مشهد وصول البلطجية والخيل والجمال إلى ميدان التحرير وعبورهم آخر حواجز العسكر غير مفهوم للثوار ولباقي قطاعات الشعب المصري، كان الرجل في الميدان يقف ولا يعلم من هؤلاء، هل هم مجموعة من الغاضبين المنحازين إلى مبارك؟ أم مجموعة من التجار والعاملين الغاضبين من تدهور تجارتهم وأعمالهم؟
بدا أن مشهد الحرب الأهلية الرواندية بين الهوتو والتوستي كان حاضراً بقوة في الميدان، ولكن الحقيقة تكشفت عندما تجاوز الأمر مقارعة الحجارة إلى دخول الجمال والخيول إلى قلب الميدان، مع إبراز الأسلحة البيضاء وقنابل المولتوف مع استخدام السيوف والعصي والسياط.
إذاً تلك هجمة منظمة عن قصد، ووجد أهل الميدان أنفسهم بين فكي رحى البلطجية والعسكر، فقرروا الصمود، وتترسوا بالحواجز الحديدية الميحطة بالميدان، وخلعوا رخام الأرض وأحجار الأرصفة ليصدوا الموجة الشرسة الأولى من الهجوم.
الثوار السلميون المرابطون في الميادين صمدوا صموداً عجيباً وغير متوقع، لم يوجد عابر في الميدان إلا وأصيب في هذا اليوم، خاصة وأن قذائف الرخام الثقيلة كانت كثيفة وعشوائية كزخات المطر، ومع حلول المساء كانت الهجمة تشتد وكان الثوار يتوافدون للمساندة، وبدأ الشهداء يتساقطون، لا سيما أن القناصة انضموا تباعاً عندما وجدوا أن صفوف بلطجية النظام تتهاوى ولا يستطيعون مع الوقت إلا فراراً والعودة إلى أدراجهم.
كانت ليلة هذا اليوم ليلاء مظلمة لا تكاد تمر، حجب الظلام أشباح المجرمين الذين اعتلوا البنايات وقنصوا عدداً من الثوار، حتى بلغ عدد الشهداء أحد عشر شهيداً حسب الإحصائيات الرسمية، ومئات المصابين.
كان الثوار مناضلين أكفاء شجعاناً لم يتراجعوا أو يتهاونوا، ما أكسبهم تعاطفاً شعبياً بالغاً بعد ذلك اليوم العصيب، أذهب كل انحياز لمبارك، وهدم معه خطاب الثلاثاء الضبابي.
لا هجوم بعد اليوم
اليوم نغزوهم ولا يغزوننا، كان هذا تعبيراً مجازياً عما بعد موقعة الجمل، حيث كانت آخر هجمة ممنهجة لسلطة مبارك، قال الدكتور محمد البلتاجي في شهادته عن هذا اليوم وكان أحد أبطاله "إن ضابطاً في المخابرات يسمى اللواء عبدالفتاح، اجتمع به قبل الموقعة وطلب منه الانسحاب من التحرير حتى لا يحدث صدام بين الطرفين - يقصد المؤيدين والمعارضين-، وهو ما رد عليه البلتاجي: وهل ضاق بهم ميدان مصطفى محمود وكل ميادين مصر صالحة للتظاهر؟!"
بعدها أكد له أن مبارك ورجاله لن يقربوكم بعد اليوم، وهو ما كان إيذاناً بانتهاء هذه الحقبة من السجال والمعارك، وإن ظل أهل الميدان يؤمنون أنفسهم تحسباً لأي لحظة غدر منتظر.
براءة من العسكر والتاريخ لا ينسى
في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2012 قضت محكمة جنايات القاهرة ببراءة جميع المتهمين في موقعة الجمل، وتم إغلاق الملف نهائياً برفض محكمة النقض الطعن المقدم من النيابة، وجاء أمر النائب العام، هشام بركات، بحفظ التحقيق في أحداث موقعة الجمل هو الختم الأخير لإنهاء تفاصيل النزاع القضائي في الجريمة.
وبقي التاريخ شاهداً على أن موقعة الجمل كان يوماً فاصلاً وحاسماً في مسيرة الثورة، ولولاه لوئدت ثورة المصريين في بدايتها.
في ميدان التحرير مهد الثورة ومبتدؤها ومنتهاها نسجت قصص من التاريخ لا تنساها الأجيال وتبحث دائماً في تفاصيلها المعقدة، ولموقعة الجمل منها أصعب وأجمل الحكايات المروية، إذ هبت رياح الغضب محملة بثلاثين سنة من حنق نظام مبارك تجمعت في لحظة واحدة لتجتث الجموع الثائرة في التحرير.
فكان الثاني من فبراير/ شباط 2011 تاسع أيام الثورة المصرية، هو اليوم الذي عبرت فيه الخيل والبغال والحمير حواجز العسكر الثقيلة على مرأى ومسمع من أصحاب الزي المموه لتنقض على الثوار في ميدانهم لإنهاء الثورة إلى الأبد، فكانت المعركة الحاسمة التي غيرت معالم مصر، وأعلنت أن ثورتها ماضية إلى هدفها الأكبر وهو إسقاط النظام.
خنوع الديكتاتور
مبارك الرجل العسكري العنيد، الذي بقي ثلاثين سنة على رأس النظام، وقد حرص خلال أعوام حكمه الطويلة أن يرسم نفسه بطلاً لحرب السادس من أكتوبر 1973 ومنفذاً للضربة الجوية الأولى التي حملت سر الانتصار العظيم، والذي يملك كل الأجهزة الأمنية الشرسة للدولة المصرية، تزلزل الثورة أركان حكمه أخيراً، الشباب الذين تحدوا جبروت النظام وأحرجوه، خلال أسبوع ثقيل من الموجات المتسارعة للثورة، لم يستجيبوا لكل النداءات التي أطلقت لعودتهم وتراجعهم من الميدان بما فيها نداء مبارك نفسه، ليلة جمعة الغضب في الـ28 من يناير/ كانون الثاني 2011 وقد حقق شيئاً من المطالب بإقالة الحكومة وتعيين نائب له.
إلا أن السيف قد سبق العذل واستمرت الجموع في زحفها نحو الميادين، وهنا قرر مبارك أن يكسر صنمه الطاغية، وأن يتخلى عن عناده ووجهه العسكري الصارم، فخرج بأخطر خطاباته وقد لعب على وتر العاطفة لدى المصريين يستعطفهم وما أدراك ما وتيرة العاطفة والاسترحام لدى الشعب المصري، الذي قد يغفر كل ما حاق به لسنوات مقابل لحظات استعطاف مسروقة من أعوام العذاب.
وعلى ذاكرة السمك عند الجماهير، لعب مبارك في خطاب ليلة الثلاثاء الأول من فبراير/ شباط 2011، وصدق جزء من حديثه، وبدأت عوامل الانقسام تسري في عروق الشعب، حتى وصلت إلى داخل الميدان نفسه وبين جموع المعتصمين.
الموت لصناع أنصاف الثورات
لم تؤثر تلك الكلمات كثيراً في من شهدوا قسوة عساكر مبارك في جمعة الغضب، وكانت دماء شهداء يناير لم تجف بعد، وقرروا التترس بالميدان حتى يسقطوا النظام، ولا سبيل للعودة في عقيدتهم الثورية، إذ علموا أن الرجوع معناه الموت المحقق.
فبقي قطاع عريض من الثوار في الميدان، ولكن على الجانب الآخر كان النظام يحشد حشوده، ويستخدم قوته الناعمة من الفنانين والرياضيين وسائر سدنة الدولة الذين اعتمد عليهم كثيراً في التسويق لنفسه وللحزب الوطني الحاكم، نزلت تلك القوة الناعمة إلى الشارع وعلى بضع خطوات من ميدان التحرير في ميدان مصطفى محمود احتشدوا ومعهم المتعاطفون مع مبارك، وكان المشهد مخيفاً، إذ بدى أنه اصطفاف مضاد وانقسام واقع، وأن شبح الحرب الأهلية يلوح في الأفق بين أبناء الشعب الواحد.
وفي سراديب الشيطان كانت الدولة العميقة تعمل في تجهيز الجيش الذي سيطرد الثوار من ميدان التحرير، إنه جيش البلطجية الكامن الذي طالما كان يظهر في المظاهرات والوقفات الاحتجاجية من آن لآخر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، رجال الحزب الوطني الأقحاح كـصفوت الشريف وإبراهيم كامل وحسين مجاور، وعدد من رجال مجلسي الشعب والشورى ومعهم صفوف من المقربين من دوائر السلطة جهزوا الجيش وأمدوه بكل الأدوات والأموال اللازمة لإتمام المهمة التي توقعوا سهولتها وسرعتها في حسم الموقف.
الخيل والجمال تخترق حواجز القاهرة الكثيفة
هُزمت الشرطة، يوم جمعة الغضب، هزيمة منكرة، وانسحبت من شوارع العاصمة غير مأسوف عليها، وقد اندلعت الثورة في الأساس احتجاجاً على ممارستها، وحلت اللجان الشعبية العظيمة التي كونها المواطنون محل الشرطة في كل ركن من أركان المدن والمحافظات لا سيما القاهرة الكبرى، ثم انتشرت مدرعات الجيش وأقامت الحواجز العسكرية وقامت بتأمين المنشآت الحيوية، كان مشهد نزول الجيش فريداً من نوعه لم تشهده القاهرة، منذ أواخر ثمانينات القرن المنصرم، عندما نزل الجيش لقمع انتفاضة الأمن المركزي.
وفي يوم الأربعاء الثاني من فبراير/شباط 2011 تحركت فيالق الخيالة والجمال يرافقهم عدد من البلطجية المدججين بالسلاح من مناطق ( نزلة السمان - المنصورية - منشأة البكاري) وكلها من الأحياء المحيطة بمنطقة الأهرامات السياحية والتي يعمل كثير من أهلها في السياحة.
المسافة من منطقة الأهرامات إلى ميدان التحرير تقدر بـ 18 كم، تقطع زمنياً سيراً على الأقدام في حوالى 3 ساعات، وتمثلت خارطة تحرك ركب البلطجية والجمال في عبور شارع الهرم بأكمله بحواجزه العسكرية وصولاً إلى شارع مصر والسودان المشهور في محافظة الجيزة القريب من جامعة القاهرة حتى اقتربوا من ميدان مصطفى محمود الكائن بشارع جامعة الدول العربية على مسافة دقائق من ميدان التحرير.
احتاجت تلك الجموع بجمالها وخيلها وأسلحتها أن يصعدوا كوبري السادس من أكتوبر ليهبطوا من اتجاه ميدان عبدالمنعم رياض بجوار المتحف المصري ليقتحموا الميدان من هناك.
أين الجيش؟
كانت تلك المسيرة العجيبة التي لم تشهدها القاهرة من قبل تتقدم بسهولة وتعبر حواجز وأكمنة القوات المسلحة، التي لم تحرك ساكناً ولم تبد أي اعتراض لوقف هؤلاء المهاويس المأجورين، كان الأمر أشبه بحملة الغوغاء لقائدها بطرس الناسك في بداية الحروب الصليبية، عندما قطعت شوطاً ضخماً من الأراضي والدول دون اعتراض حتى اصطدمت بالجيش السلجوقي في نهاية المطاف.
وكتب العديد من مؤرخي الثورة، أن تلك فعلياً كانت بداية "الخيانة" من الجيش، وأن عبور جحافل البلطجية بهذا الشكل وسط العاصمة هو مشهد سيتوقف التاريخ عنده طويلاً، فضلاً عن أنه أحد أهم النقاط المحورية في ثورة الخامس والعشرين من يناير.
الميدان يشتعل
كان مشهد وصول البلطجية والخيل والجمال إلى ميدان التحرير وعبورهم آخر حواجز العسكر غير مفهوم للثوار ولباقي قطاعات الشعب المصري، كان الرجل في الميدان يقف ولا يعلم من هؤلاء، هل هم مجموعة من الغاضبين المنحازين إلى مبارك؟ أم مجموعة من التجار والعاملين الغاضبين من تدهور تجارتهم وأعمالهم؟
بدا أن مشهد الحرب الأهلية الرواندية بين الهوتو والتوستي كان حاضراً بقوة في الميدان، ولكن الحقيقة تكشفت عندما تجاوز الأمر مقارعة الحجارة إلى دخول الجمال والخيول إلى قلب الميدان، مع إبراز الأسلحة البيضاء وقنابل المولتوف مع استخدام السيوف والعصي والسياط.
إذاً تلك هجمة منظمة عن قصد، ووجد أهل الميدان أنفسهم بين فكي رحى البلطجية والعسكر، فقرروا الصمود، وتترسوا بالحواجز الحديدية الميحطة بالميدان، وخلعوا رخام الأرض وأحجار الأرصفة ليصدوا الموجة الشرسة الأولى من الهجوم.
الثوار السلميون المرابطون في الميادين صمدوا صموداً عجيباً وغير متوقع، لم يوجد عابر في الميدان إلا وأصيب في هذا اليوم، خاصة وأن قذائف الرخام الثقيلة كانت كثيفة وعشوائية كزخات المطر، ومع حلول المساء كانت الهجمة تشتد وكان الثوار يتوافدون للمساندة، وبدأ الشهداء يتساقطون، لا سيما أن القناصة انضموا تباعاً عندما وجدوا أن صفوف بلطجية النظام تتهاوى ولا يستطيعون مع الوقت إلا فراراً والعودة إلى أدراجهم.
كانت ليلة هذا اليوم ليلاء مظلمة لا تكاد تمر، حجب الظلام أشباح المجرمين الذين اعتلوا البنايات وقنصوا عدداً من الثوار، حتى بلغ عدد الشهداء أحد عشر شهيداً حسب الإحصائيات الرسمية، ومئات المصابين.
كان الثوار مناضلين أكفاء شجعاناً لم يتراجعوا أو يتهاونوا، ما أكسبهم تعاطفاً شعبياً بالغاً بعد ذلك اليوم العصيب، أذهب كل انحياز لمبارك، وهدم معه خطاب الثلاثاء الضبابي.
لا هجوم بعد اليوم
اليوم نغزوهم ولا يغزوننا، كان هذا تعبيراً مجازياً عما بعد موقعة الجمل، حيث كانت آخر هجمة ممنهجة لسلطة مبارك، قال الدكتور محمد البلتاجي في شهادته عن هذا اليوم وكان أحد أبطاله "إن ضابطاً في المخابرات يسمى اللواء عبدالفتاح، اجتمع به قبل الموقعة وطلب منه الانسحاب من التحرير حتى لا يحدث صدام بين الطرفين - يقصد المؤيدين والمعارضين-، وهو ما رد عليه البلتاجي: وهل ضاق بهم ميدان مصطفى محمود وكل ميادين مصر صالحة للتظاهر؟!"
بعدها أكد له أن مبارك ورجاله لن يقربوكم بعد اليوم، وهو ما كان إيذاناً بانتهاء هذه الحقبة من السجال والمعارك، وإن ظل أهل الميدان يؤمنون أنفسهم تحسباً لأي لحظة غدر منتظر.
براءة من العسكر والتاريخ لا ينسى
في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2012 قضت محكمة جنايات القاهرة ببراءة جميع المتهمين في موقعة الجمل، وتم إغلاق الملف نهائياً برفض محكمة النقض الطعن المقدم من النيابة، وجاء أمر النائب العام، هشام بركات، بحفظ التحقيق في أحداث موقعة الجمل هو الختم الأخير لإنهاء تفاصيل النزاع القضائي في الجريمة.
وبقي التاريخ شاهداً على أن موقعة الجمل كان يوماً فاصلاً وحاسماً في مسيرة الثورة، ولولاه لوئدت ثورة المصريين في بدايتها.