28 أكتوبر 2024
موسكو وأنقرة: تفاهمات السياسة أم تفاهمات الميدان؟
أن تشنّ فصائل المعارضة السورية في منطقة "درع الفرات" هجوما شرق مدينة الباب، هو الأول من نوعه منذ أربع سنوات، فهذا يدعو إلى التوقف، بما يتجاوز ما يقال إنه محاولة للتخفيف عن الفصائل في إدلب. وأن تقصف قوات النظام السوري لأول مرة بشكل مباشر رتلا عسكريا تركيا، فهذا يعني أن ثمّة قرارا روسيا بلجم أية اندفاعة عسكرية تركية لمواجهة قوات النظام. وأن يهدّد الرئيس التركي، أردوغان، بعمليةٍ عسكريةٍ في إدلب، في وقت يدعو فيه روسيا إلى عدم امتحان تركيا، فهذا يعني أن تفاهمات السياسة وتفاهمات الميدان بين الجانبين أصبحت على المحك.
وأن يحدث تكذيب وتكذيب مضاد بين الجانبين، التركي والروسي، بشأن أسباب مقتل الجنود الأتراك، فهذا مؤشر على فقدان الثقة. وأن تشن اتهامات واتهامات مضادّة بشأن مسؤولية التطورات العسكرية، فهذا يعني أن تفاهمات سوتشي قد انهارت. وأن يتأخر التواصل بين الرئيسين، التركي والروسي، كما كان معتادا في السابق مع أي خلافٍ يحدث، فهذا يعني انخفاض مستوى التنسيق والتواصل بين الجانبين.
هل يفهم من هذه التطورات أنها بداية الافتراق الروسي ـ التركي في الساحة السورية؟ العلاقات الروسية ـ التركية في سورية ليست استراتيجية ما فوق تاريخية، بقدر ما هي علاقات مرحلية
فرضتها ظروفٌ معينة، تزول بزوال هذه الظروف. وأحد أهم أسباب التقارب الروسي التركي هو الوجود العسكري الأميركي في سورية الذي يهدّد الطرفين معا كل لأسبابه. ولمّا كانت روسيا وتركيا غير قادرتيْن على تحصيل تنازلات أميركية في الملف السوري تبعا لمصالحهما، فقد قويت عرى التحالف بينهما، وحصلت تنازلاتٌ سياسيةٌ وعسكريةٌ متبادلة. غير أن الأمر اختلف تماما، بعد انتهاء التوتر التركي ـ الأميركي عقب انسحاب القوات الأميركية من شمالي الرّقة، والسماح لتركيا بشن هجوم عسكري سيطرت بموجبه على المنطقة الواقعة بين مدينتي تل أبيض غربا ورأس العين شرقا.
ماذا يعني ذلك للروس؟ إنه يعني، في المقام الأول، أن تركيا، بحكم موقعها ونفوذها في الصراع السوري، استطاعت الحصول على مكتسباتٍ من الجانبين الروسي والأميركي معا، في وقت كان الروس يأملون أن تبقى أنقرة أسيرة التفاهمات معهم فقط.
بلغة الجيواستراتيجيا، عنى ذلك لموسكو أن تركيا حقّقت فائضا من الحضور الجغرافي العسكري، ولم تعد في موقف المتصارع مع الولايات المتحدة، بل وصلت الأمور إلى حد حصول تفاهماتٍ تركية أميركية بشأن قضايا كثيرة. وهذا أحد السياقات التي بسبّبها شن الروس هجومهم على إدلب. لكنّ ثمّة سياقين آخرين، يجب إبرازهما:
ـ قناعة روسية بأن الأتراك ضعيفون، ولا يستطيعون مواجهة الآلة العسكرية الروسية. وبني هذا التقدير ليس فقط على أساس التفوّق العسكري الروسي فحسب، بل أيضا بسبب التراخي التركي في الرد على الخروق الروسية التي بدأت العام الماضي، وانتهت بالسيطرة على ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي. لم يفعل الأتراك شيئا حيال تجاوز الروس بنود اتفاق سوتشي الذي نص على أن تكون المنطقة الآمنة (15 ـ 20 كلم) مناصفةً بين أراضي الجانبين، ولكن ما حصل أن الروس جعلوا المنطقة الآمنة في أراضي المعارضة.
ـ السياق الثاني، وهو السياق الاستراتيجي: لقد تعب الروس من إطالة مدة النزاع العسكري مع غياب أي استثمار سياسي ـ اقتصادي لهذا النزاع، وقد توصلوا إلى قناعةٍ، منذ أكثر من عام، بأن الصراع الحقيقي ليس في غرب سورية، وإنما في شرقها، فمن يسيطر هناك يفرض أجندته. ولذلك، يعمل الروس على إنهاء المعارك الجانبية، ومنها إدلب، للتفرغ للشرق والمسألة الكردية.
والخلاف الروسي التركي ليس على جنوب إدلب، ولا على الطرق الدولية في محافظة إدلب، فهذا
متفقٌ عليه ضمن مسار أستانة، وسهولة سيطرة النظام على معرّة النعمان ومحيطها الشرقي، وسرعة الوصول إلى مدينة سراقب، تؤكد أنه لا يوجد قرارٌ تركيٌّ بمواجهة هذا الهجوم. ينحصر الخلاف بين الجانبين في ما بعد سراقب: الأتراك لا يتحمّلون سقوط مدينة إدلب بيد النظام، لأن ذلك يشكل تهديدا كبيرا على تركيا من النواحي الإنسانية الاقتصادية والعسكرية. ويفيد حصر نقاط المراقبة العسكرية التركية الجديدة في الشمال والشمال الشرقي لسراقب بأن هذه المنطقة يجب أن تكون خط النهاية لقوات النظام السوري. ولا يفهم من دخول أرتال عسكرية تركية كبيرة إلى المحافظة أنه محاولة لتغيير قواعد اللعبة والانتقال من الدفاع إلى الهجوم، كما ذهب بعضهم.. لا تسمح موازين القوى بذلك، لكنها تسمح لأنقرة إذا ما أرادت بجعل المعركة أكثر صعوبة وتكلفة للنظام وروسيا.
لم تتدخل هيئة تحرير الشام في كل معارك إدلب التي بدأت العام الماضي، ولكنها فجأة تشارك، عبر "العصائب الحمراء"، بتنفيذ عملية عسكرية مهمة مع فصائل المعارضة غرب حلب، قبل أن تعود أدراجها.
وفهم الموقف التركي في إدلب على المستوى العسكري مرتبط مباشرة بتحرّكات الهيئة، لا بتحرّكات الفصائل، فالهيئة لا تتدخل إلا بأمرٍ مباشرٍ من أنقرة، وهذه رسالة تركية إلى روسيا، أن المناطق الشمالية من المحافظة خط أحمر. ووفقا لهذه القراءة، ستنتهي العمليات العسكرية، على الأغلب، بعد السيطرة على مدينة سراقب وريفي حلب الجنوبي والغربي، مع إعادة بناء اتفاقٍ جديدٍ على غرار اتفاق سوتشي، استمرارا لمسار أستانة الذي لا ترغب العاصمتان بزواله، لأسباب سياسية لا عسكرية، على أن يبقى مصير شمال المحافظة معلقا إلى مرحلة لاحقة.
هل يفهم من هذه التطورات أنها بداية الافتراق الروسي ـ التركي في الساحة السورية؟ العلاقات الروسية ـ التركية في سورية ليست استراتيجية ما فوق تاريخية، بقدر ما هي علاقات مرحلية
ماذا يعني ذلك للروس؟ إنه يعني، في المقام الأول، أن تركيا، بحكم موقعها ونفوذها في الصراع السوري، استطاعت الحصول على مكتسباتٍ من الجانبين الروسي والأميركي معا، في وقت كان الروس يأملون أن تبقى أنقرة أسيرة التفاهمات معهم فقط.
بلغة الجيواستراتيجيا، عنى ذلك لموسكو أن تركيا حقّقت فائضا من الحضور الجغرافي العسكري، ولم تعد في موقف المتصارع مع الولايات المتحدة، بل وصلت الأمور إلى حد حصول تفاهماتٍ تركية أميركية بشأن قضايا كثيرة. وهذا أحد السياقات التي بسبّبها شن الروس هجومهم على إدلب. لكنّ ثمّة سياقين آخرين، يجب إبرازهما:
ـ قناعة روسية بأن الأتراك ضعيفون، ولا يستطيعون مواجهة الآلة العسكرية الروسية. وبني هذا التقدير ليس فقط على أساس التفوّق العسكري الروسي فحسب، بل أيضا بسبب التراخي التركي في الرد على الخروق الروسية التي بدأت العام الماضي، وانتهت بالسيطرة على ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي. لم يفعل الأتراك شيئا حيال تجاوز الروس بنود اتفاق سوتشي الذي نص على أن تكون المنطقة الآمنة (15 ـ 20 كلم) مناصفةً بين أراضي الجانبين، ولكن ما حصل أن الروس جعلوا المنطقة الآمنة في أراضي المعارضة.
ـ السياق الثاني، وهو السياق الاستراتيجي: لقد تعب الروس من إطالة مدة النزاع العسكري مع غياب أي استثمار سياسي ـ اقتصادي لهذا النزاع، وقد توصلوا إلى قناعةٍ، منذ أكثر من عام، بأن الصراع الحقيقي ليس في غرب سورية، وإنما في شرقها، فمن يسيطر هناك يفرض أجندته. ولذلك، يعمل الروس على إنهاء المعارك الجانبية، ومنها إدلب، للتفرغ للشرق والمسألة الكردية.
والخلاف الروسي التركي ليس على جنوب إدلب، ولا على الطرق الدولية في محافظة إدلب، فهذا
لم تتدخل هيئة تحرير الشام في كل معارك إدلب التي بدأت العام الماضي، ولكنها فجأة تشارك، عبر "العصائب الحمراء"، بتنفيذ عملية عسكرية مهمة مع فصائل المعارضة غرب حلب، قبل أن تعود أدراجها.
وفهم الموقف التركي في إدلب على المستوى العسكري مرتبط مباشرة بتحرّكات الهيئة، لا بتحرّكات الفصائل، فالهيئة لا تتدخل إلا بأمرٍ مباشرٍ من أنقرة، وهذه رسالة تركية إلى روسيا، أن المناطق الشمالية من المحافظة خط أحمر. ووفقا لهذه القراءة، ستنتهي العمليات العسكرية، على الأغلب، بعد السيطرة على مدينة سراقب وريفي حلب الجنوبي والغربي، مع إعادة بناء اتفاقٍ جديدٍ على غرار اتفاق سوتشي، استمرارا لمسار أستانة الذي لا ترغب العاصمتان بزواله، لأسباب سياسية لا عسكرية، على أن يبقى مصير شمال المحافظة معلقا إلى مرحلة لاحقة.