موسكو تشقّ "الأطلسي" في عيده السبعين: الإرهاب العدو الجديد

فايز عجور (العربي الجديد)
فايز عجور
صحافي لبناني، من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".
03 ديسمبر 2019
92F3CEA3-F98E-4F9A-80EE-191840ECB833
+ الخط -
يعقد حلف شمال الأطلسي (الناتو) قمته في لندن اليوم وغداً، في وقت يعاني فيه بعد مرور 70 عاماً على تأسيسه، من خلافات بين العديد من دوله وتغيّر النظرة إليه على أنه السد المنيع بوجه أي عدوان، حتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي وصفه أخيراً بأنه "ميت دماغياً"، طالب بإنشاء ما وصفه بـ"جيش أوروبي حقيقي" للدفاع عن القارة التي قد تضطر إلى مواجهة قوى كبرى، مثل روسيا والصين، وحتى الولايات المتحدة.

وتأتي القمة، التي كان يفترض أن تتحول إلى مناسبة لإظهار قوة الحلف بعد 70 عاماً من تأسيسه، في الوقت الذي يواصل فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التخلي عن الحلف،  بالتزامن مع استمرار التباين بين دوله بشأن المساهمة في الإنفاق الدفاعي. وسبق لترامب أن وصف الحلف بالمؤسسة البالية. كذلك برزت عشية القمة مطالبة رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس الدعم من "الأطلسي" بعد توقيع تركيا اتفاقاً عسكرياً مع حكومة الوفاق الليبية. وقال إن "الحلف لا يمكنه أن يبقى غير مبالٍ عندما ينتهك أحد أعضائه القانون الدولي ويسعى إلى (إلحاق الضرر) بعضو آخر"، فيما تتجه الأنظار إلى الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان، والفرنسي إيمانويل ماكرون، لمعرفة ما إذا كانا سيستكملان حربهما الكلامية على هامش القمة. 

وبينما تعيد الأزمات التي يعاني منها حلف شمال الأطلسي طرح تساؤلات عن جدوى استمراره، استبق الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، افتتاح القمة بالرد على العديد من الهواجس والتأكيد أن الحلف ليس ميتاً دماغياً، موضحاً أن الاختلافات بين دوله التي تشمل ملفات عدة بينها الاتفاق النووي مع إيران، وسورية، والتجارة وتغير المناخ، تحتاج إلى المعالجة. وقال ستولتنبرغ إن "الوحدة شاغلنا الأساسي للحماية ودفاع بعضنا عن بعض في الأيام المضطربة التي نراها اليوم"، مضيفاً أنّ "من المهم للغاية وجود مؤسسات متعددة الأطراف قوية مثل حلف شمال الأطلسي. نعم، نحن 29 دولة مختلفة على جانبي المحيط الأطلسي، ومع وجهات نظر ومشاكل غير منسجمة، لكن نتفق على الرسالة الرئيسية، وهي أن نقف معاً". 

وبينما ابتعد الحلف الذي الذي تأسس في عام 1949 للتصدي لخطر الاتحاد السوفييتي كثيراً عن أهدافه ليركز على مواجهة الصين ومحاربة الإرهاب، وسط دعوات من دول أوروبية إلى عودة التقارب مع موسكو، تراقب روسيا جميع هذه التطورات، محاولة توظيفها لمصلحتها.

واستطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اللعب على التناقضات والخلافات بين دول حلف شمال الأطلسي، لإحداث شرخ في جدار الحلف، إذ إن اتفاقه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على كيفية "حماية" حدود بلاده مع سورية جعل أنقرة تردّ له الجميل، عبر منع الحلف من تمرير قرار يسمح بنشر خطة خاصة بحماية دول البلطيق وبولندا من روسيا، وإن كان مصدر أمني تركي قد نفى أمس قبيل القمة أن تكون تركيا تبتز الحلف برفضها الخطة، مشدداً على أن بلاده تتمتع بحقوق النقض (الفيتو) كاملة داخل الحلف.
كذلك إن اعتماد دول أوروبية على الطاقة الروسية جعلها توجه أنظارها عن العدو التقليدي إلى عدو آخر هو الإرهاب. وبعد نحو 5 سنوات من عقوبات أوروبية وأميركية على روسيا، بعد ضم بوتين للقرم في عام 2014، استطاعت موسكو تغيير بوصلة الحلف عنها، خصوصاً بعد تقاربها مع دول كانت من أكثر المدافعين عن الأطلسي، إذ بدأت تتصاعد الخلافات داخله، والدعوات إلى إعادة التقارب مع روسيا، خصوصاً من ألمانيا وفرنسا، بالإضافة إلى التقارب الكبير بين أنقرة وموسكو. كذلك دخل ستولتنبرغ على خط محاولات التهدئة مع موسكو، إذ أكد في تصريح في برلين لمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس الحلف أخيراً، أهمية بدء حوار جدي مع روسيا، موجهاً الأنظار إلى "عدو" جديد هو الصين ونموها في مجال التكنولوجيا وأثره على العالم، محذراً من أن "الصين لديها مئات الصواريخ التي لها مدى أكبر مما تسمح به الاتفاقيات الدولية".



ويتقارب كلام ستولتنبرغ مع تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي اعتبر أن الولايات المتحدة تبقى "شريكنا الكبير"، غير أنها تتجه بأنظارها إلى مكان آخر نحو "الصين والقارة الأميركية". وأعلن أن الحلف يحتاج إلى وضوح أكبر في توجهاته، والتركيز على العدو المشترك، الذي اعتبر أنه ليس روسيا ولا الصين، بل جماعات إرهابية. وقال: "عدونا المشترك داخل الحلف هو الإرهاب الذي ضرب كل بلادنا". لكن مسؤولاً أميركياً أشار إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيؤكد في قمة الحلف أن الصين وروسيا لا تزالان بين أبرز التحديات التي يواجهها التكتل، مضيفاً: "الصين قبل كل شيء". ورأى أنْ "ليس من الغريب" أنّ كثيراً من أعضاء حلف شمال الأطلسي يشعرون بالقلق حيال "عدم اكتراث (روسيا) المتواصل بسيادة أراضي جيرانها ووحدتها".

وفيما انتقد ستولتنبرغ روسيا لضمها القرم، في يونيو/ حزيران 2014، بشكل غير قانوني وتطوير أسلحة، فإنه أكد، قبل فترة، أن الحلف "لا يريد سباقاً جديداً للتسلح أو حرباً باردة أخرى أو أن نثبت صواريخ نووية في أوروبا"، داعياً إلى بدء "حوار بنّاء مع روسيا، وأن نحسن علاقاتنا معها، لأنها جارة لنا، وفي ظل التوترات القائمة نحتاج إلى التحدث إليهم، وعلينا أن نتجنب أن ندخل في نزاع وصراع معها. لذلك، أنا أدعم الحوار مع روسيا في جميع المجالات، الأسلحة وغيرها".

وكان ماكرون قد فجر مفاجأة عبر إعلانه، في مقابلة مع مجلة "أيكونوميست" في 7 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أنّ حلف شمال الأطلسي في حالة "موت دماغي"، منتقداً قلّة التنسيق بين الولايات المتحدة وأوروبا والسلوك الأحادي الذي اعتمدته تركيا، الحليفة الأطلسية، في سورية. وقال: "ليس هناك أيّ تنسيق لقرار الولايات المتحدة الاستراتيجي مع شركائها في الحلف الأطلسي، ونشهد عدواناً من شريك آخر في الحلف، تركيا، في منطقةٍ مصالحنا فيها على المحكّ، من دون تنسيق".

هذا التصريح يجعل من أنقرة تتقارب أكثر مع موسكو، التي كانت تعتبر العدو الرئيسي للحلف. وكانت تركيا، التي عقد رئيسها رجب طيب أردوغان اجتماعات مطولة مع بوتين، أدت إلى اتفاق على إبعاد "قوات حماية الشعب" الكردية عن حدود تركيا مع سورية، قد وجهت ضربة قاسية إلى حلف شمال الأطلسي، وأثارت حفيظة واشنطن بعد اقتنائها منظومة صواريخ "إس 400 الدفاعية" من روسيا. ووصفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية هذا الأمر بأنه "خيانة للحلفاء". وكتبت أن "تركيا تسلمت منظومة الدفاع الروسية رغم التحذيرات الأميركية بفرض عقوبات عليها، لذلك فالولايات المتحدة وباقي دول حلف شمال الأطلسي ليس لها من خيار سوى التساؤل: هل لا تزال تركيا تنتمي إلى الحلف؟". واعتبرت أن "أردوغان يدير ظهره للحلف بفضل بوتين ويختبر التحالف". وأشارت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، من جهتها، إلى أن "تصرف حكومة أردوغان شاذ إلى درجة أن بعض المنتقدين للصفقة اقترحوا طرد تركيا من الأطلسي"، لكنها حذرت في المقابل من أن "طرد تركيا من الحلف الغربي سيمثل خطوة دراماتيكية سيحبها أعداء الغرب. روسيا تحديداً تحاول منذ فترة طويلة فرط عقد حلف شمال الأطلسي وإدخال تركيا في فلكها". كذلك فإن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ترفض طرد أنقرة من الحلف "لأن بقاء تركيا في الحلف يشكل أهمية جيواستراتيجية للأطلسي".

صحيفة "لاكروا" الفرنسية أشارت، في إطار تعليقها على موضوع "صفقة منظومة "إس 400" الروسية لتركيا، إلى أن "روسيا نجحت في بث الشقاق بين تركيا وباقي أعضاء حلف شمال الأطلسي". يشار إلى أن تركيا هي ثاني أكبر جيش في الحلف من حيث العدد وأكبر حليف في الشرق الأوسط، كذلك فإنها تملك قاعدة أنجرليك الجوية، التي تستخدمها أميركا وأعضاء آخرون في "الأطلسي".

كذلك، أدى التقارب بين بوتين وأردوغان إلى مواجهة غير مسبوقة بين تركيا والحلف، عبر رفضها دعم خطة عسكرية للدفاع عن بولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، في حال مهاجمة روسيا هذه الدول، إلى حين تلبية مطالبها بتصنيف "الوحدات" الكردية، المدعومة من واشنطن ودول أوروبية، أنها إرهابية، وتفعيل البند الخامس الخاص بالدفاع عن الدول الأعضاء في الحلف. وقال مصدر تركي لوكالة "رويترز" أخيراً، إن الحلف وافق هذا العام على دعم خطته للدفاع عن تركيا، بما في ذلك في حال تعرضها لهجوم من الجنوب، حيث تقع حدودها مع سورية. وتنطوي الخطة على الاعتراف بأن "الوحدات" الكردية تمثّل تهديداً "إرهابياً" لأنقرة، لكن المصدر أوضح أن واشنطن سحبت دعمها فيما بعد، كما عبّرت دول أخرى عن معارضتها. وأضاف: "لذلك، نقول إذا لم تنشر (خطتنا الدفاعية) فلن نسمح بنشر الخطة الأخرى" الخاصة بالبلطيق وبولندا. يشار إلى أن خطة الدفاع عن دول البلطيق في حال تعرضها لهجوم روسي تحتاج إلى دعم جميع الدول الأعضاء في الحلف. وقال رئيس تحرير مجلة "روسيا في السياسة العالمية" فيدور لوكيانوف، لصحيفة "فزغلياد" الروسية، إن "الأطلسي ينتقد خطط تركيا، بل يهدد بفرض عقوبات. وفي مواجهة مثل هذه المعارضة من الحلفاء، قررت تركيا استخدام الأدوات المتاحة لها"، وبينها الاعتراض على خططه "لحماية دول البلطيق وبولندا من روسيا". واعتبر أن أنقرة، التي لا ترى في موسكو عدواً لها، "ليست مهتمة كثيراً بما تشعر به البلدان الأخرى".

وما يزيد من دق الإسفين بين ضفتي الأطلسي، أن بوتين استطاع جعل دول أوروبية عديدة، على رأسها ألمانيا، تعتمد على الغاز والنفط الروسي، إذ تستورد أكثر من 35 في المائة من حاجتها من الغاز الطبيعي في المتوسط سنوياً، ونحو 27 في المائة من النفط من روسيا. كذلك إن التقارب بين بوتين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في تصاعد، وهو ما ظهر جلياً في تصريح لوزير الخارجية الألماني هايكو ماس، الذي أشار خلال لقاء عقده مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، في موسكو أخيراً، أنه "لن تُحقَّق نتائج في ما يتعلق بقضايا دولية مهمة إلا من خلال إشراك روسيا. نحتاج إلى تعاون بنّاء من جانب روسيا، خصوصاً في شرق أوكرانيا". يشار إلى أنه سيعقد اجتماع في باريس في 9 ديسمبر/ كانون الأول، بين قادة روسيا وألمانيا وفرنسا وأوكرانيا في إطار "رباعية النورماندي" لبحث كيفية حل الأزمة الأوكرانية.

ولترامب دور كبير في ضعضعة الحلف، وهو أمر قد يفرح بوتين كثيراً. وذكرت قناة "سي بي سي" الكندية، في تقرير لمناسبة الذكرى السبعين لإنشاء حلف شمال الأطلسي، أن قادة الدول قد يحاولون خلال القمة في لندن معرفة من هو الصديق، خصوصاً بعد تبادل الحلفاء الإهانات. وأوضحت أن "الدول الـ29 في الحلف كانت متأكدة لعقود من دعم بعضهم البعض عسكرياً، بناءً على البند الخامس في معاهدة تأسيسه، التي تقول إن أي هجوم مسلح على دولة أكثر في أوروبا أو أميركا الشمالية سيعتبر هجوماً على كل الأعضاء" في الحلف. لكن ترامب، بحسب الخبير العسكري الكندي دايف بيري، جعل الدول تشكك في هذا الأمر. وقال للقناة إن "الرئيس الأميركي ترك انطباعاً في بعض الأوقات بأنه يفضل وجود علاقات أفضل مع الرئيس الروسي أكثر من بعض قادة دول في الحلف في أوروبا أو حتى كندا".

وانتقد البروفسور في الدراسات العسكرية جون دينيس، في تحليل لمركز "كارنيغي"، طريقة تعاطي ترامب مع الحلف، معتبراً أن سياسته ستسمح لروسيا بتقوية وجودها السياسي والعسكري في أوروبا. وقال: "تحتاج الولايات المتحدة إلى كل الحلفاء الآن من أجل منافسة روسيا والصين. من السخرية أن الاستراتيجيات العسكرية والدفاعية للإدارة الأميركية تقوم بهذا الأمر بشكل صحيح، لكن بعض تصريحات الرئيس وأعماله تقوّض هذا الأمر".

ذات صلة

الصورة

سياسة

أعلنت وزارة الدفاع التركية، ليل أمس الأربعاء، قتل العديد من مسلحي حزب العمال الكردستاني وتدمير 32 موقعاً لهم شمالي العراق.
الصورة
آثار قصف روسي على إدلب، 23 أغسطس 2023 (Getty)

سياسة

شنت الطائرات الحربية الروسية، بعد عصر اليوم الأربعاء، غارات جديدة على مناطق متفرقة من محافظة إدلب شمال غربيّ سورية، ما أوقع قتلى وجرحى بين المدنيين.
الصورة
قوات روسية في درعا البلد، 2021 (سام حريري/فرانس برس)

سياسة

لا حلّ للأزمة السورية بعد تسع سنوات من عمر التدخل الروسي في سورية الذي بدأ في 2015، وقد تكون نقطة الضعف الأكبر لموسكو في هذا البلد.
الصورة
احتجاج ضد مقتل الطفلة نارين غوران في تركيا، 9 سبتمر 2024 (فرانس برس)

مجتمع

لم تلق جريمة قتل بتركيا، ما لقيه مقتل واختفاء جثة الطفلة، نارين غوران (8 سنوات) بعدما أثارت قضيتها تعاطفاً كبيراً في تركيا واهتماماً شخصياً من الرئيس التركي