أوجد استفتاء الخامس من أغسطس/ آب الحالي واقعاً سياسياً جديداً في موريتانيا، بغض النظر عن الجدل الدائر بشأن نزاهة العملية الانتخابية التي انتهت بنتيجة التصويت لصالح التعديلات الدستورية بنسبة 85 في المائة. يتعلق الأمر من الآن فصاعداً، بمسار سياسي جديد يتخلله تنظيم انتخابات بلدية وتشريعية مبكرة بعد إلغاء مجلس الشيوخ، وزيادة عدد نواب الجمعية الوطنية بـ40 نائباً ليصبح العدد الكلي 121 نائباً. لكن هذا المسار يبقى محفوفاً بالمخاطر بسبب الأزمة السياسية بين المعارضة بمختلف أطيافها والنظام الحاكم، في وقت لا تزال فيه مسألة الولاية الثالثة للرئيس محمد ولد عبد العزيز، لغزاً بعيداً عن الحل، بفعل تضارب تصريحات الرئيس والمسؤولين بهذا الشأن.
ومع إقرار التعديلات الدستورية الجديدة، تم إلغاء مجلس الشيوخ بوصفه الغرفة الأولى في البرلمان الموريتاني. صحيح أن النظام الموريتاني كسب جولة في معركة، لكن تبقى أمامه تحديات أخرى، إذ من المتوقع أن يتم حل الجمعية الوطنية الحالية وإجراء انتخابات برلمانية وبلدية جديدة، وهي محطة يتوقع ألا تكون سهلة بالنسبة للنظام، باعتبارها موسماً تقليدياً لتفجر الخلافات داخل الأغلبية الحاكمة والمجموعات القبلية الداعمة لها بفعل الصراعات على الترشيحات والمناصب الانتخابية. والمشاكل المتوقعة لا تقف عند هذا الحد، إذ من المرجح أيضاً أن تواكب العملية الانتخابية حملة تشكيك بمدى قدرة النظام الموريتاني على توفير شروط النزاهة في الانتخابات المقبلة. وسبق للمعارضة أن وجهت اتهامات بارتكاب عمليات تزوير في الاستفتاء الأخير. وفي حال كانت الاتهامات بمحلها، سيعني ذلك تراجعاً عن مكاسب سابقة حققتها موريتانيا وحصلت بموجبها على ثناء الهيئات الدولية بشأن نزاهة عمليات الاقتراع المختلفة التي نظمتها منذ انقلاب 2005.
وتلقي مسألة الولاية الثالثة للرئيس ولد عبد العزيز بظلالها على المشهد السياسي الموريتاني بفعل التضارب في تصريحات الرجل ومساعديه. لكن تمرير التعديلات الدستورية في الاستفتاء يمكن أن يشجع الرئيس على طرح مسألة بقائه في السلطة بشكل أكثر صراحةً وقوةً خلال المرحلة المقبلة. غير أن العقبات التي واجهتها عملية إقرار التعديلات الدستورية والاتهامات التي طاولت النظام بشأن التزوير وضعف حجم المشاركة الشعبية في الاستفتاء، كلها عوامل تجعل من الصعب تسويق بقاء الرئيس في السلطة بعد انتهاء ولايته، حسب الدستور. وسيبقى هذا الهاجس مطروحاً حتى يسلّم الجنرال السابق السلطة عام 2019، بالنظر إلى مسؤوليته عن انقلابين عسكريين في 2005 و2008 وتحكمه في المشهد السياسي الموريتاني نحو عقد من الزمن.
ويمثل التعاطي مع الجبهة المعارضة التي تشكلت قبيل الاستفتاء الأخير، تحدياً آخر أمام النظام الموريتاني، بعدما استعادت المعارضة وحدتها بعودة "تكتل القوى الديمقراطية" إلى التنسيق مع "المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة"، وانضمام أطراف سياسية جديدة إلى العمل مع المعارضة ضمن تنسيقية واحدة وهي حزب "القوى التقدمية للتغيير" ومباردة "انبعاث الحركة الانعتاقية" المناهضة للعبودية.
وأظهرت تنسيقية المعارضة الجديدة ديناميكية سياسية لافتة واكبت عملية إقرار التعديلات الدستورية. فقد نظمت المعارضة تظاهرات يومية وعمليات احتجاج واسعة واكبت الحملة الانتخابية للاستفتاء. هذه التطورات أربكت السلطات الموريتانية التي اضطرت لمواجهة تحركات المعارضة بالقوة، ما خلق أجواء من الاضطرابات داخل العاصمة نواكشوط والمدن الكبرى، وصدرت تصريحات من الأمم المتحدة تدعو السلطات الموريتانية لاحترام حق التظاهر السلمي.
لكن المعارضة الموريتانية تبدو اليوم في موقف صعب، لأن رهانها على إسقاط التعديلات الدستورية فشل بفعل إقرارها رسمياً، كما أن مرحلة ما بعد الاستفتاء ستكون أكثر صعوبةً وغموضاً. ومن المتوقع أن تنفجر خلافات المعارضة الموريتانية إذا ما تم إجراء انتخابات تشريعية وبلدية جديدة. ولعل الانقسام الأبرز بين أطياف المعارضة سيتمحور حول قرار المشاركة في هذه الانتخابات أو مقاطعتها. فحزب "تواصل" الإسلامي، وهو أحد أبرز الأحزاب في المعارضة، يمتلك 16 نائباً في البرلمان الحالي، بفعل مشاركته المنفردة في انتخابات 2013. ويتوقع أن يشارك في الانتخابات التشريعية المقبلة في الوقت الذي تفضل فيه أحزاب أخرى، مثل "تكتل القوى الديمقراطية"، المقاطعة. وهذا يعني أن "شهر العسل" الذي جمع المعارضة في تنسيقية واحدة ضد الاستفتاء، لن يطول بالنظر إلى تضارب مصالحها وأجندتها في التعاطي مع الاستحقاقات المقبلة.
ومن المتوقع أن ينسجم خيار قوى معارضة أخرى مع خيارات النظام الموريتاني والأغلبية الحاكمة، وهذا الأمر ينطبق على ما يعرف إعلامياً بـ"معارضة الوسط"، وهي حزب "التحالف الشعبي التقدمي" وحزب "الوئام الديمقراطي" وحزب "التحالف الوطني". وشاركت هذه الأحزاب في الاستفتاء الحالي ودعت للتصويت لصالح التعديلات الدستورية، كما كانت شريكاً للأغلبية الحاكمة في مؤتمرين للحوار الداخلي، الأول نظم عام 2011 والثاني عام 2016.
وهناك طرف معارض آخر سيكون معنياً بمرحلة ما بعد الاستفتاء. يتعلق الأمر بأعضاء مجلس الشيوخ الذين أسقطوا التعديلات الدستورية قبل أن يقرر الرئيس طرحها للاستفتاء الشعبي. ومع أن هؤلاء فقدوا مناصبهم بإلغاء التعديلات لغرفة مجلس الشيوخ، إلا أنه من المتوقع أن تبقى "النواة الصلبة" المتمثلة في "لجنة الأزمة"، فاعلة في المشهد المعارض. فقد اكتسب حراك أعضاء مجلس الشيوخ زخماً بتصديهم للاستفتاء الدستوري واعتصامهم داخل المجلس أثناء تنظيم الاستفتاء. وأعلن هؤلاء أنهم سيستمرون في مناصبهم ولن يعترفوا بنتيجة الاستفتاء، ما يعني أنهم سيكونون طرفاً في المشهد السياسي في مرحلة ما بعد استفتاء الخامس من أغسطس/ آب 2017.