18 نوفمبر 2024
موت السوريين بين الممنوع والمسموح دولياً
لا يسمح هذا العالم "المتحضر" باستخدام السلاح الكيماوي لقتل السوريين، أما غير ذلك فهو متاح، على ما يبدو، على الرغم من أن قتل المدنيين، وفي أي سلاح، هو جريمة حرب في الأعراف والقوانين الدولية، فالكيماوي أسرع أنواع الأسلحة في حصد الضحايا، وتوسيع غنائم القاتل من أرواح المواطنين، وفيه تصبح المشاهد أقل دموية، لكن أكثر فاعلية في القتل مما تعوّد عليه المجتمع الدولي. هكذا، فعندما يتم الحديث عن المأساة السورية، ثمّة في هذا الموت الكيماوي الصامت مجرد مشاهد لجثث متراكمة، فلا أطفال مكللة بالدماء، ولا أطراف مبتورة، ولا أعناق تحت الركام، ولا أمهات تصرخ، أو آباء بوجوه مفجوعة وصرخات غاضبة، كما يحدث عندما يموت السوريون بالقنابل، والبراميل المتفجرة، وبقذائف الدبابات وبالصواريخ المطوّرة، حيث يسمح بهذا الموت "فقط" للسوريين.
نعم، الموت الصاخب، الذي يستفز مشاعر الإنسانية، مسموح به، ويمكن مناقشته على المنابر الدولية بين مؤيد له ومعارض، لكن لا يمكن لجمه دولياً ومنعه ومحاسبة مستخدمه. أما الموت بالسلاح الكيماوي فممنوع، لأنه سلاح محظور، يحرج الصامتين من الدول عن استخدامه ومستخدميه، على الرغم من أن ضحايا كلا "الموتين"، المسموح والممنوع دولياً، مجرد أرقام في منظمات حقوق الإنسان، واجتماعات مجلس الأمن القلقة من نوع هذا الموت.
حرب الإبادة التي مارستها قوى حليفة للنظام (روسيا، إيران) بالشراكة معه، تجاه أهالي
الغوطة، ما لم تكن بسلاح كيماوي، تغدو بمثابة خلافٍ في وجهات النظر بين قادة العالم، يمكن التباحث حولها، وإطلاق البيانات الصوتية ضدها، لكن لا يمكن إدانتها، على الرغم من أنها جرائم حرب، فهي تتم بسلاح تقليدي، استخدامه مسموح في ردع الشعوب الطامحة إلى حرياتها، وادعاءات محاربة الإرهاب جاهزة. أما السلاح الكيماوي فذاك شأن "أخلاقي"، يخجل هؤلاء الملتئمون في اجتماعات مجلس الأمن بمحاولتهم تبريره أمام شعوبهم، متجاوزين كل ما يتعلق بالضحايا وأهاليهم. لذلك يبحثون في تعليل وتعطيل إثبات الإدانات الدامغة، تهرّباً من مسؤولية الصمت العلني عليها، على الرغم من أنهم يمارسون هذا الصمت بكامل ضجيجه القبيح، منذ نحو خمسة أعوام، مع بدء تسرب صور مجازر السلاح الكيماوي التي راح ضحيتها 1466، بينهم أطفال ونساء كثيرون في الغوطة (أغسطس/آب 2013)، والاكتفاء بتدمير ذاك السلاح عقابا له، وليس لمستخدمه، في فاجعةٍ جديدة تصيب الإنسانية جميعها.
على ذلك، التصريحات الصاخبة المتعاقبة لرؤساء الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا وزعمائها، عن "ضرورة عقاب مستخدمي السلاح الكيماوي في سورية، إذا ثبت ذلك"، تضعنا أمام مفترقات طرق جديدة، لكنها سرعان ما تتحول إلى سراب، مع اقتران تلك التهديدات بـ "إذا" الشرطية، حيث تصبح مهمتها تمييع الفعل، وتفريغ مضمون التهديد الصوتي، ما يفيد بأن ما يحدث للسوريين ليس مرهوناً برغبة النظام ومن يسانده فقط، إنما هو صمت يرقى إلى مستوى الشراكة العالمية ربما في الرغبة بتدمير سورية، وتغيير وجهها الديمغرافي والجغرافي، في خطوةٍ تسبق استعادة تمركز كل القوى المتصارعة في منطقة الشرق الأوسط من بوابة سورية الضعيفة، وخلافاتها الإثنية والطائفية والمذهبية.
ولعل تكرير المسؤولين في الأمم المتحدة أن سيناريو حلب هو المرشح ليكون واقع الغوطة الشرقية، مع عدم اتخاذ التدابير اللازمة لمنع حدوثه، يضع الأمم المتحدة أمام جملةٍ من التساؤلات هي أشبه بالاتهامات عن دورها وآلية عملها، ومدى ارتهانها لقوى التدمير التي تجتاح سورية، بديلاً عن دورها في حفظ السلام والأمن الدوليين:
من ضمن تلك التساؤلات ما الذي يجعل الأمم المتحدة ترى في الحلول المقدمة من روسيا، وهي شريك في قتل السوريين، وسيلتها لحل عادل، ينهي المأساة السورية المستمرة منذ سبع سنين؟ ولماذا يحاول المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، أن يصور أن ما قدّمه مؤتمر سوتشي من مقترح بشأن تشكيل لجنة دستورية هو محور العملية السياسية، في الوقت الذي تبيد فيه روسيا منطقة الغوطة الشرقية، ويستبيح طيرانها مواقع في إدلب، ويتم التغاضي عن اقتحام إيران الغوطة براً، لمساندة النظام في استعادة سيطرته على مناطق حيوية تحيط بالعاصمة، وتجبر سكانها على الخروج منها في تنفيذ مخطط لعملية تغيير ديمغرافي، تدرك الأمم المتحدة ووسيطها، دي ميستورا، مخاطرها ومحاذيرها في مستقبل سورية؟ أيضاً هل يرى دي ميستورا أن انطلاق المباحثات السياسية على أساس مؤتمر سوتشي الذي قاطعته المعارضة، ودفعت إدلب والغوطة ثمناً باهظاً لفشل روسيا من خلاله في صناعة حل سياسي على مقاسها، يشبه الحل العسكري الذي صاغته في أستانة، حيث روّضت فيه الفصائل المشاركة فيه، لتكون شرطيا لها في مناطق نفوذها، بعد أن كانت مهمتها أن تكون عامل قوة للمعارضة في مفاوضاتها السياسية، ما جعل روسيا تثق بأنها حيّدت سلاح المعارضة الذي ارتهن للدول الضامنة في أستانة (روسيا، إيران، تركيا)، ووجهته إلى صدر العملية السياسية التي تدور في جنيف بين طرفين غير متكافئين ميدانياً ودبلوماسياً؟
أخيراً، وماذا عن فشل الأمم المتحدة في تنفيذ كامل قراراتها الـ 17 التي أشار إليها القرار
الجديد 2401 منذ عام 2012، ومنها 2042 و2043 و2118 و2139 و2165 و2175 و2191 و2209 و2235 و2254 و2286 و2332 و2336 و2393، والبيانات الرئاسية، وصولا إلى قرار الشهر الماضي، وفي مضمونها ما يلبي احتياجات إنهاء الصراع في سورية، وتوفير عوامل الأمان للمواطنين السوريين، وانهاء الاقتتال وإطلاق سراح المعتقلين، وفك الحصار عن المدن والمدنيين، وإعادة الأسلحة الثقيلة إلى قطعاتها العسكرية، وتوفير المأوى للمهجرين، للبدء في عمليةٍ سياسيةٍ تؤدي إلى صياغة جديدة لسورية ما بعد 2011؟ ولماذا تريد الأمم المتحدة الهروب من مسؤوليتها، في تنفيذ قراراتها، للاختباء وراء ما أنتجه مؤتمر "هزيل" في تمثيله السوريين، شكلاً ومضموناً، وعلى اختلاف مواقعهم من مؤيدين أو معارضين؟
مارست الأمم المتحدة صمتا على جريمة الغوطة الشرقية، وهي تعلم علم اليقين، أنها ستقع على بعد أيام من اجتماعها، وقرارها 2401 القاضي بوقف إطلاق النار، مدة محددة بثلاثين يوماً، وانتهاك هذا القرار من دولةٍ وافقت عليه داخل الجلسة (روسيا)، وفجرته على رأس صواريخها وقنابلها التي انهالت، بعد إقراره بساعات، فقط على الغوطة الشرقية، متابعة بذلك مخططها بالشراكة مع إيران والنظام السوري في تهجير الأهالي، عبر ما سمي الممر الإنساني الذي صنعته موسكو، بمبادرةٍ منها لنسف القرار الأممي، مضموناً وتنفيذاً، وهو في حقيقته ممر لكشف عار الإنسانية، وعجز مجلس الأمن عن أداء مهمته في حفظ السلام والأمن الدوليين، واتخاذ ما يلزم بحق مرتكبي جرائم الحرب الذين يجلسون على أحد مقاعدها الدائمين.
تمثل مشاهد الموت العابرة إلينا من الغوطة والصمت المقابل عليها وجه العالم الجديد، القائم على العودة إلى منطق ما قبل المدنية والحضارة، وحيث تبدد هذه الصور، شئنا أم أبينا، صورة سورية الواحدة شعباً، قبل أن تبدّد أحلامنا بسورية دولة المواطنين الآمنين الأحرار، ليصبح المشروع الوطني السوري الذي تنادي به الشرائح السورية المثقفة أثراً بعد عين.
نعم، الموت الصاخب، الذي يستفز مشاعر الإنسانية، مسموح به، ويمكن مناقشته على المنابر الدولية بين مؤيد له ومعارض، لكن لا يمكن لجمه دولياً ومنعه ومحاسبة مستخدمه. أما الموت بالسلاح الكيماوي فممنوع، لأنه سلاح محظور، يحرج الصامتين من الدول عن استخدامه ومستخدميه، على الرغم من أن ضحايا كلا "الموتين"، المسموح والممنوع دولياً، مجرد أرقام في منظمات حقوق الإنسان، واجتماعات مجلس الأمن القلقة من نوع هذا الموت.
حرب الإبادة التي مارستها قوى حليفة للنظام (روسيا، إيران) بالشراكة معه، تجاه أهالي
على ذلك، التصريحات الصاخبة المتعاقبة لرؤساء الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا وزعمائها، عن "ضرورة عقاب مستخدمي السلاح الكيماوي في سورية، إذا ثبت ذلك"، تضعنا أمام مفترقات طرق جديدة، لكنها سرعان ما تتحول إلى سراب، مع اقتران تلك التهديدات بـ "إذا" الشرطية، حيث تصبح مهمتها تمييع الفعل، وتفريغ مضمون التهديد الصوتي، ما يفيد بأن ما يحدث للسوريين ليس مرهوناً برغبة النظام ومن يسانده فقط، إنما هو صمت يرقى إلى مستوى الشراكة العالمية ربما في الرغبة بتدمير سورية، وتغيير وجهها الديمغرافي والجغرافي، في خطوةٍ تسبق استعادة تمركز كل القوى المتصارعة في منطقة الشرق الأوسط من بوابة سورية الضعيفة، وخلافاتها الإثنية والطائفية والمذهبية.
ولعل تكرير المسؤولين في الأمم المتحدة أن سيناريو حلب هو المرشح ليكون واقع الغوطة الشرقية، مع عدم اتخاذ التدابير اللازمة لمنع حدوثه، يضع الأمم المتحدة أمام جملةٍ من التساؤلات هي أشبه بالاتهامات عن دورها وآلية عملها، ومدى ارتهانها لقوى التدمير التي تجتاح سورية، بديلاً عن دورها في حفظ السلام والأمن الدوليين:
من ضمن تلك التساؤلات ما الذي يجعل الأمم المتحدة ترى في الحلول المقدمة من روسيا، وهي شريك في قتل السوريين، وسيلتها لحل عادل، ينهي المأساة السورية المستمرة منذ سبع سنين؟ ولماذا يحاول المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، أن يصور أن ما قدّمه مؤتمر سوتشي من مقترح بشأن تشكيل لجنة دستورية هو محور العملية السياسية، في الوقت الذي تبيد فيه روسيا منطقة الغوطة الشرقية، ويستبيح طيرانها مواقع في إدلب، ويتم التغاضي عن اقتحام إيران الغوطة براً، لمساندة النظام في استعادة سيطرته على مناطق حيوية تحيط بالعاصمة، وتجبر سكانها على الخروج منها في تنفيذ مخطط لعملية تغيير ديمغرافي، تدرك الأمم المتحدة ووسيطها، دي ميستورا، مخاطرها ومحاذيرها في مستقبل سورية؟ أيضاً هل يرى دي ميستورا أن انطلاق المباحثات السياسية على أساس مؤتمر سوتشي الذي قاطعته المعارضة، ودفعت إدلب والغوطة ثمناً باهظاً لفشل روسيا من خلاله في صناعة حل سياسي على مقاسها، يشبه الحل العسكري الذي صاغته في أستانة، حيث روّضت فيه الفصائل المشاركة فيه، لتكون شرطيا لها في مناطق نفوذها، بعد أن كانت مهمتها أن تكون عامل قوة للمعارضة في مفاوضاتها السياسية، ما جعل روسيا تثق بأنها حيّدت سلاح المعارضة الذي ارتهن للدول الضامنة في أستانة (روسيا، إيران، تركيا)، ووجهته إلى صدر العملية السياسية التي تدور في جنيف بين طرفين غير متكافئين ميدانياً ودبلوماسياً؟
أخيراً، وماذا عن فشل الأمم المتحدة في تنفيذ كامل قراراتها الـ 17 التي أشار إليها القرار
مارست الأمم المتحدة صمتا على جريمة الغوطة الشرقية، وهي تعلم علم اليقين، أنها ستقع على بعد أيام من اجتماعها، وقرارها 2401 القاضي بوقف إطلاق النار، مدة محددة بثلاثين يوماً، وانتهاك هذا القرار من دولةٍ وافقت عليه داخل الجلسة (روسيا)، وفجرته على رأس صواريخها وقنابلها التي انهالت، بعد إقراره بساعات، فقط على الغوطة الشرقية، متابعة بذلك مخططها بالشراكة مع إيران والنظام السوري في تهجير الأهالي، عبر ما سمي الممر الإنساني الذي صنعته موسكو، بمبادرةٍ منها لنسف القرار الأممي، مضموناً وتنفيذاً، وهو في حقيقته ممر لكشف عار الإنسانية، وعجز مجلس الأمن عن أداء مهمته في حفظ السلام والأمن الدوليين، واتخاذ ما يلزم بحق مرتكبي جرائم الحرب الذين يجلسون على أحد مقاعدها الدائمين.
تمثل مشاهد الموت العابرة إلينا من الغوطة والصمت المقابل عليها وجه العالم الجديد، القائم على العودة إلى منطق ما قبل المدنية والحضارة، وحيث تبدد هذه الصور، شئنا أم أبينا، صورة سورية الواحدة شعباً، قبل أن تبدّد أحلامنا بسورية دولة المواطنين الآمنين الأحرار، ليصبح المشروع الوطني السوري الذي تنادي به الشرائح السورية المثقفة أثراً بعد عين.