موتٌ من نوعٍ آخر

22 يناير 2018
+ الخط -
فارقت بسمة ذات الثانية عشر عامًا الحياة بحثًا عن حياةٍ أخرى أقل بؤسًا وضراوةً من حياتها الحالية، لم تكن تبحث عن المال والجاه والشهرة، فجل همها ينصب على كيفية مواصلة دراستها الإبتدائية، ومتى سترى أسرتها في أفضل حال؟ أو في الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
ذهبت بسمة نحو الحياة الأخرى، معتقدةً أنها ستخفف عن كاهل والديها أعباء قليلة، من دون أن تفكر أنها ألقت عليهما عبئًا سيظل ملقىً على صدريهما مدى الحياة، وغصةً تخنقهما كلما رأوا أختها الأصغر منها سِنًّا والأكبر منها حظًا بالعيش على هذا الوطن اللامحظوظ أبدًا.
كانت الساعة الثالثة عصرًا، حين بدأت بسمة بملاعبة أختها الأصغر في غرفة الجلوس، بهدف لفت انتباهها عما تريد فعله، وفي لحظة غفلة خرجت إلى الغرفة المجاورة.
كي تضع العقدة الأخيرة في ذلك الحبل الذي لفّته حول عنقها بإتقان من خذلته الحياة، ولسان حالها يقول: "إني أخاف انخراط الحبل والسقوط في وحل الحياة مرةً أخرى".
تضاربت الأنباء عن سبب انتحارها، أو بالأصح سبب اغتيال أيدي القدر لها، فكل موقعٍ إخباري ينشر قصةً تناسب السياسة الإعلامية الخاصة به، وترضي ضمير مالكيه الذين يغشاهم السواد والقبح. بينما يقترب موقعٌ آخر من الحقيقة، طمعًا في إلقاء اللوم على طرفٍ ثانٍ، وكلٌ يرمي المسؤولية تجاه الآخر.
ماتت بسمة ذات الثانية عشر عامًا عندما طردها أحد الأساتذة من الفصل، كونها لم تدفع 500 ريال، وهو المبلغ الذي فرضته المدارس على الطلاب لتغطية احتياجات المدرسين الذين لهم ما يقارب العام والنصف بدون رواتب.
أخبرت بسمة ذلك الأستاذ أنها ستطلب من الدها أن يعطيها الـ 500 ريال، وستدفعها في اليوم التالي، لكن الأستاذ كان أسوأ مما توقع الجميع، حين رفض ذلك، ورمى بدفاترها إلى خارج باب الفصل، وطردها كما لو كانت هي من منعت عنه راتبه الشهري.
عذرًا طفلتي بسمة، فالأستاذ جبانًا بقدر القبح الذي يكتنفه، فلو كان معلمًا ورجلًا بحق، لصرخ في وجه من منع عنه راتبه الشهري، لا في وجه طالبةً تدفع مبلغًا بسيطًا شهريًا كي تغطي احتياجاته، وليس ذلك عليها بفرض، إنما تعاونًا مع معلمٍ أراد تقديم رسالته السامية رغمًا عن الظروف.
لم تصرف له الحكومة مرتبًا، فصب غضبه على طفلةٍ صغيرة، من المخجل أن نرمي اللوم على الطالب، ونمنح الحكومة أعذارًا لقتلنا.
لم تذهب بسمة إلى المدرسة في اليوم التالي، لأن والدها لم يعد بعد من عمله، لذا اختارت حجز موعدٍ مع القدر، ليغتال طفولتها، وغابت عن المدرسة وعن الحياة أيضًا. طلب منها مغادرة الفصل، فاختارت مغادرة الحياة مرةً واحدة، فماتت وماتت بسمتها، وانتزعت البسمة من وجه والديها اللذين يشعران بالموت كل لحظةٍ تمر من حياتهما التعيسة.
رحلت الطفلة بسمة، ورحلت معها ابتسامات أقاربها، وصديقاتها اللاتي كن يخبرنها عن رغبتهن بمواصلة التعليم سويةً، وأنهن يتشوّقن لرؤية ملامح المستقبل.
رحلت الطفلة بسمة، في زمنٍ سرق البسمة من على كل الشفاه، ومنحنا دمعًا يغرق العيون، وبؤسًا يعانقنا صباح مساء.
لم تشفع لها طفولتها، بل كانت سببًا لموتها، كونها لم تستطع تحمل انكسارات هذه الحياة.
D3DEB331-FD61-412F-A981-A02DF5C92998
D3DEB331-FD61-412F-A981-A02DF5C92998
مطهر الخضمي (اليمن)
مطهر الخضمي (اليمن)